رحلة “التطبيل” في التاريخ المصري (١) .. رشوة لم يحتملها المرتشي
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
دولة عريقة عمرها يزيد عن ٧ ألاف سنة، كان لدى مصر وزراء وموظفين حكوميين منذ ٧٠ قرنا بينما امتلكتهم الولايات المتحدة منذ ٦ قرون فقط وكذلك بريطانيا وفرنسا منذ ١٥ قرنا على أقصى تقدير، الدولة العميقة من الموظفين الحكوميين لها مراسم وأجواء كان التطبيل جزء منها لا ينفصل عنها لأن الموظف الحكومي يملك من القرارات والمقررات الذي دفع المواطن إلى التطبيل به وكذلك محاولة رشوته من أجل الحصول عليها.
سلسلة جديدة أستعرض فيها عزيزي القاريء تاريخ التطبيل في كل عصور الدولة المصرية صاحبة السبعة آلاف عام، في محاولة لدراسة العادة وفهمها وكذلك دراسة نفسية صاحبها ولماذا يفعلها والأهم كيف يفعلها.
الجزء الأول .. رشوة لم يحتملها المرتشي
ماريانا ماي توروك هون زندو أو جاويدان هانم، الشابة التي تزوجها الخديوي عباس حلمي الثاني في الأول من مارس عام ١٩١٠، المولودة عام ١٨٧٧ في فيلادفيا وطلقها خديوي مصر عقب زواج استمر لثلاثة سنوات فقط، ربما تكون صاحبة أغرب “تطبيل” و”رشوة” في التاريخ المصري الحديث.
كتبت الأميرة جاويدان التي أسلمت فور زواجها من خديوي مصر مذكراتها عن الفترة التي قضتها في القصور الملكية المصرية في بدايات القرن العشرين، وذكرت فيها تلك الواقعة باندهاش شديد، فهيا نتعرف عليها سويا بعدما حدثت في حفل زفاف حضرته بصفتها زوجة الخديوي الثانية والأميرة المليكة على لسانها:
كان حفل زفاف ابنة أحد الباشاوات ولم يتجاوز عمرها ١٣ عاما، وكانت العروس مصابة بالتهاب رئوي شديد لكن الطبيب أجاز اقامة الفرح لعدم تكبيد والد العروسة خسائر مادية كبيرة، ركبت جاويدان سيارتها الملكية التي تجرها الخيول واتجهت لمنزل العروس وهي تفكر في تلك الطفلة المريضة التي عرفت أخبارها من وصيفاتها وعريسها الشاب الذي لم يتجاوز ١٨ عاما.
وصلت عربتها ليأمر الحوذي الخيل بالتمهل ليذبح أهل العروسة الذبائح أمامهم اكراما للضيفة الكبيرة، وأخيرا تقف العربة أمام باب الحريم في قصر الباشا فتغادرها زوجة الخديوي جاويدان هانم.
تنحني السيدات المدعوات لتقبيل الثوب احتفالا بالأميرة، وتحضر القهوة وينتظر الجميع رشفة الأميرة الأولى ليرتشفن من فناجيلهن، لتحضر الأميرة مراسم الزفاف كاملة لكنها تحكي عن أغرب هدية – رشوة – جاءتها بسبب وجودها في حفل الزفاف هذا اليوم، حيث اقتربت منها زوجة أحد الوزراء – خليك فاكر مرات وزير يا عزيزي القاريء – وانحنت وقالت في انكسار أنها عجزت عن احضار هدية للأميرة زوجة الخديوي لأن لديها كل شيء فلم تجد هدية تقدمها سوى أعز ما تملك ومدت يدها لتناول الأميرة جاويدان ابنها هدية – رشوة – مقابل رضاها.
نعم تنازلت زوجة الوزير عن طفلها ذو السنوات الخمس بكامل رضاها في “تطبيل” غير مسبوق ورشوة غير معتاة لارضاء زوجة الخديوي.
جمدت الأميرة الملكية مكانها واقترب منها الطفل فاحتضنته وقبلته غير موقنة مما يحدث، حاولت اقناع اليدة برضاها وأن تسترد طفلها لكنها أبت بشموخ رواد التطبيل الأوائل وانسحبت لتعود الأميرة جاويدان بالطفل للقصر ويعلم الخديوي بالقصة ويثور غاضبا من تلك الهدية أو الرشوة العديبة.
ولمدة ٣ أيام امتنع الطفل فيها عن الأكل واكتفى بالبكاء كانت الفرصة الذهبية لاعادته لوالدته مع عربتين محملتين بالهدايا، لينقضي الغرض الذي في نفسها – حسبما كتبت الأميرة –
تخيل يا مؤمن رشوة وصلت لاهداء الأبناء، تطبيل أوليمبي
الراشية صاحبة التطبيلة غير المسبوقة امرأة وزوجة وزير، منحت زوجة الخديوي طفلها بلا تردد وفي ثبات تحسدها عليه الشياطين نفسها لتصبح أحد آلهات التطبيل في التاريخ المصري الحديث.
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال