رحلة طرد القلقاس من القائمة السوداء للأطعمة
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
طفل في السادسة من عمره هادئ خجول لا يمارس شغب الأطفال المعتاد، كان يستعيض عنه بالفضول ومحاولات استكشاف فطرية لأي شئ تقع عينه عليه, كانت محاولاته في الغالب خفية لا يعلم عنها أحد، لم تخلو من بعض الكوارث بعضها كانت تختفي آثارها بمرور الوقت والبعض كانت معالمها واضحة، ما بين محاولات استعمال شفرات الحلاقة الخاصة بالكبار، أو إصلاح شريط كاسيت علق وتمزق في المسجل، خرج هذا الطفل من أغلب الكوارث سليمًا معافى إلا كارثة واحدة حلت عليه، عندما قاده فضوله اللعين لتذوق شئ ما لمعرفة طعمه قبل أن يطبخ، تسبب ذلك في إصابته بحرقان في الفم وجفاف في الحلق انتهى بضيق تنفس كاد ان يتسبب بكارثة، حتى أنقذته أمه التي عرفت أنه أكل من القلقاس المقطع الذي لم يطبخ بعد.
تركت تلك الحادثة أثر واضحًا على الطفل الذي قرر ألا يتذوق القلقاس مرة أخري سواء كان نئ أو مطبوخًا، وبدأ يفكر في أن يكف عن محاولات الاستكشاف بعد أن كلفته أخر محاولة علقة ساخنة.
امتاز الأب بميزة تروق للنساء بالأخص، وهي عدم رفضه لأي طعام يقدم إليه، كل ما يهم عند عودته من العمل أن يجد الغذاء جاهزًا مهما كان نوعه، هذه الميزة كان يراها الطفل عيبًا خطيرًا فحتمًا سيطبخ القلقاس يومًا ما، هذا الطفل الذي لا يحمل أي ترتيب مفضل بين أخواته وبالتالي لا يملك حق الرفض أو حتى التذمر، ويضع نفسه بين ثلاث خيارات يتدرجون من سئ لأسوء، الأول هو تناول ما تبقي من وجبة الإفطار في حالة ما أن ترك هذا الجيش الجرار الذي يعيشه معه أي شئ، والثاني هو رفضه تناول الغذاء والانتظار حتى وجبة العشاء، والثالث بالطبع هو الرضوخ والاستسلام أمام وجبة القلقاس هذا الخضار الذي لا يجد سببًا لوجوده في الحياة.
بمرور الوقت وبعد رحيل الوالد بدأ الجيل الأكبر من الأخوة فرض سيطرته على المنزل، منحوا الجيل الأصغر مساحة قليلة من إبداء الرأي في المكونات الرئيسية لوجبة الغذاء، مع الوضع في الاعتبار أنها مساحة هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع مع التلويح بسحبها في أي وقت يشاؤون، لكن على الأقل كان هناك توافق على بعض الأكلات التي وضعت في قائمة الأكلات سيئة السمعة التي لا يحبها الكل، مع ميزة توفير طعام بديل لمن يعترض على أصناف معينة، لكن المهم هو اختفاء بعض الأكلات تمامًا، اختفي العدس حتى مع برودة الجو، اختفت البصارة حتى أن أخي الأصغر لم يرى في حياته طبق منها قط، وبالطبع كان لا بد من اختفاء القلقاس الذي وضعته على رأس قائمتي السوداء.
من بين الأخوات لا بد أن تجد أخ يملك بعض الحكمة والفطنة، ويمارس دوره التنظيري في الغالب على الجيل الأصغر منه، هذا الأخ كان يحاول زرع بداخلنا فضيلة الرضا بأي طعام، وأن نحمد الله أننا نعيش حياة مستقرة ونملك رفاهية التنوع في الأكل، عكس آخرون فرضت عليهم الظروف أكلات معينة، و ألا نأمن للأيام فقد تغدر بنا يومًا ما، أو على الأقل ندرب أنفسنا على شظف العيش فقد يضطر أحدنا إلي السفر والاعتماد على نفسه ، أو يذهب أحدنا إلي التجنيد وبالتالي لن يملك حق رفض أي طعام.
أقرأ ايضًا … في عيد ميلاد الملك محمد منير رحلة البحث عن الطول واللون والحرية
على الرغم من تأثري الشخصي بهذا الكلام المغلف بالحكمة إلا أننا كجيل كنا نري في عدم تطبيقه نوعًا من التمرد والتعبير عن أنفسنا، وكنا ندرك أن الجيل الأكبر سوف يستقل بذاته يومًا ما، وبالتالي سنحتل نحن حكم المنزل، لكن ظلت كلماته تتردد في أذني كثيرًا، وبالأخص عندما دخلت قدماي إلي مركز التدريب في الجيش لأول مرة.
مرت أول أيام التجنيد صعبة جدًا، في محاولة التأقلم على كل شئ، ومنها الطعام وأدركت منذ اللحظة الأولى أن عهد الرفاهية انتهى، والآن حان وقت إثبات الذات والتغلب على أي صعاب وأن الجيش للرجالة، وأن أخلع ثوب المدنية بكل ترفها، وبعد مرور خمس وعشرون يومًا كنت قد اعتدت الأمر كله، لكن ظل فضولي لم يفارقني وهو ما جعلني اتسأل عن نوعية الخضار الذي يطبخ في الغذاء ولا يتغير ابدًا، فبادرت بسؤال لأحد صف الضباط المعلمين عن نوعية هذا الخضار وعن مكوناته فسألني هو “أنت بقالك كام يوم هنا” فأجبت “خمس وعشرون يومًا” ليجيب ساخرًا وهو يضع معلقة من هذا الخضار في فمه “أنا بقالي عشرين سنة في الجيش ولا أعرف مكوناته ولا أريد أن أعرف” بدت الإجابة مفهومة بالنسبة لي، وهي أن أتناول الطعام في صمت وأن احتفظ بتساؤلاتي لنفسي.
رغم صعوبة الأيام الأولى إلا أنها علمتني الصبر والاعتماد على نفسي في أشياء كثيرة، وأن الاضطرار لفعل شئ يومي سيجعلك بعد فترة تعتاده، وهو ما جعلني أري الأمور من منظور جديد.
عندما علمنا فجأة بأول أجازة، انصب الاهتمام على شيئين الأول هو أنك أخيرا ستعود إلي سريرك و تنعم بنوم هادئ دون الارتباط بنوبات صحيان ونوبات نوم، والثاني وهو الأهم أنك ستحدد بنفسك قائمة الطعام في تلك الأجازة، تصادف عودتي إلي المنزل في وقت الظهيرة أثناء إعداد الغداء، وقابلتني رائحة الطعام مع صعودي من علي السلالم، لم أحاول تخمين وجبة الغذاء فحتمًا سيكون أفضل من ذلك الخضار العجيب الذي تناولته أزيد من شهر، وأنا مدرك أنهم لا يعرفون ميعاد عودتي وبالتالي لا مجال للاحتفاء بي وأعداد أصناف بعينها في نفس اليوم.
كانت المفاجأة أن الطبق الرئيسي في الغذاء هو القلقاس، و أمي تعرف جيدًا أنه على رأس قائمتي السوداء في الطعام ،فحاولت طمأنتني بأن أخذ قسط من الراحة كي تقوم بإعداد صنف بديل، لم أشأ أن أرهقها وفاجأتها باني سأتناول القلقاس، لتضحك هي وتذكرني بحادثتي معه ” أنت آخر مرة أكلت فيها قلقاس كان ني وكنت هتموت مني” لأرد عليها “دلوقتي بقا هندوقه وهو مطبوخ نشوف طعمه ايه”
كانت رائحة الطعام وطريقة إعداده كفيلة بتبديد أي مخاوف أو فوبيا من أكله بعينها، بالإضافة إلي نقطة أهم وهي ان أمك هي من قامت بإعداده وهو كفيل بأن يجعلك تلتهم أي شئ يقع في يدك، لا أنكر أني في أول مرة وضعت فيها الملعقة في طبق القلقاس فضلت أن أتذوق الصلصة مع قطع اللحم متجنبًا تذوق مكعباته، لكن أمي أصرت على تذوقها، وهو ما حدث لكن كان بالتبادل مع الصلصة، لم تكن تجربة ممتازة لكنها على الأقل ليست سيئة وتبددت معها الامتعاض من تلك الأكلة
صار القلقاس وجبة تنضم إلي جدول الوجبات في أجازة الجيش، حتى عندما انتهت فترة التجنيد كان أهم ما خرجت به هو أن لا لا تقال لأي طعام أي كان، تمزقت القائمة السوداء للأطعمة وصار الاستمتاع بالأكل يعلي من قيمة أي وجبة.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال