همتك نعدل الكفة
167   مشاهدة  

رحلتي من الأرضي إلى الخامس

الدور الخامس


وكأنه لعنة، أغلب من أعرف من عائلتي في القاهرة من قاطني الدور الخامس، كانت تلك علامة استفهام في صغري، ولكنني سريعًا ما توقعت انهم اتفقوا على أن يقطنوا في هذا الرقم بالذات، قبل إدراكي أن الموضوع مجرد صدفة، ولكن تلك الصدفة امتدت لي، فعلى مدار سنوات حياتي في القاهرة لم اسكن إلا في شقة وحيدة كانت في الدور الأول، أما البقية فلكم أن تتخيلوا، كانت بالطبع في الخامس.

وسكني في هذا الدور تحديدًا كان يستلزم بطبيعة الحال التعامل مع أحد أعظم اختراعات البشرية، وهو الأسانسير أو المصعد الكهربائي حتى لا يغضب أهل اللغة، وفي هذا العالم المصنوع من العواكس كالمرايات وألواح المعدن اللامعة هناك شيء أخر يصاحبك وهو مؤثر صوتي، أصبح هناك اتفاق ضمني على وضعه في المصاعد، وهو دعاء السفر.

ودائما ما يستوقفني ذلك، فبأي سبب منطقي وعقلاني وديني يضع شخصًا تسجيلا رديئًا لدعاء السفر قد يكون مقرونًا بموسيقى حزينة في مصعد تنتهي رحلته – إذا طالت- في الدور العاشر؟ ما هو هذا التدين الأصم الأعمى، أو للدقة التدين الظاهري الذي يجعل شخصًا يقوم بذلك؟ والحقيقة أن الإجابة جاءت من سائق سيارة نقل مر مسرعًا أمامي كان واضعًا لصورة الشعراوي وبجوارها صورة لمحمد رمضان!

وفي نفسي قلت ربما الجميع على حق وأنا الحمار الوحيد في تلك القصة، فبحثت عن معنى كلمة سفر في المعجم، ليأتي رد المعجم صريحًا السفر: التنقل بين البلاد، هكذا بلا مواربة أو شك أو جدل، ولكن لأننا شعب يهوى كل ما هو ديني، لأنه يحافظ على شكله أمام الأخرين قررنا أن كل دور في العمارات هي بلد مستقلة بذاتها، ينبغي حينما نشد إليها الرحال أن ندعو دعاء السفر.

والثبات في الأمر أنه استخدام في غير محل له، فالثابت أيضًا عن النبي أنه كان يقول هذا الدعاء حينما يركب دابته بغرض السفر، فباستكمال الدعاء ستجد أن الدعاء به جمل مثل ومن وعثاء السفر وكآبة المنظر! كآبة المنظر في مربع مليء بالعاكسات لا ترى فيها غير نفسك ومن معك؟!

بالإضافة إلى أننا نمارس لعبة مفضلة بالنسبة لنا منذ القدم وهي الاجتزاء، فكأن من وضع هذا التسجيل مدرك انه لا يمت للمصعد بصلة فقرر هو من تلقاء نفسه أن ينهي الدعاء في بدايته فيتوقف عند وإنا إلى ربنا لمنقلبون، دون استكمال باقي الدعاء، ولعبة الاجتزاء تلك يمكنك أن تراها واضحة جلية عند العديد من المحلات بمختلف بضائعها فبالتأكد لقد أكلت يوما من محل كتب على حائطه “وكلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا”.

إقرأ أيضا
أنور وجدي

وإذا لم تجد بالصدفة البحتة دعاء السفر في أحد المصاعد فأنت في الغالب ستأخذ دعاء الشعراوي على أنغام موسيقى المال والبنون كصديق لك في رحلتك إلى الطابق الذي ستصل إليه، وهذا التدين الظاهر هو من صميم جوهر الشخصية المصرية، فمثلما حكت لي إحدى الصديقات كمثال عظيم على هذا التدين الظاهري، الملهي الليلي الذي كان يضع خلال شهر رمضان براو كبير به الآية الكريمة (وسقاهم ربهم شرابًا طهورا)

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان