ماذا بعد عملية ردع العدوان؟؟.. سيناريوهات مستقبل سورية
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
دخل النزاع السوري في مرحلة جديدة، محمّلة بالغموض والتوقعات غير الواضحة، بعد هجمات حلب في 27 نوفمبر والمعروفة إعلاميًا بعملية “ردع العدوان” التي أطلقتها غرفة “إدارة العمليات العسكرية” التابعة لجماعة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، متجهةً صوب مدينة حلب، محققةً تقدمًا سريعًا من عدة محاور.
اختبار موازين القوى بعملية ردع العدوان
ومع هذا التقدم المثير تُخْتَبر فيها موازين القوى، وتطفو على السطح احتمالات تَغيُّر جذري قد يؤدي إلى وضع قواعد جديدة، وسط حالة من عدم اليقين وتفكُّك اتفاقات خفض التصعيد وآليات ووقف إطلاق النار.
وأعلنت غرفة العمليات عن أهدافها المحدودة التي تمحورت حول ما أسمته بـ”ردع العدو”، على حد تعبير الغرفة، بغرض إثناءه عن استهداف المناطق الشمالية الغربية لسورية، بعد التصعيد الأخير الذي شهدته تلك المناطق من قبل الجيش السوري النظامي وحلفائه، والذي طال شمالي سورية، بما في ذلك محاولات إعادة الأهالي المهجرين إلى قراهم.
لكن مفاجأة المعركة كانت في سرعة انهيار الصفوف الدفاعية للجيش السوري النظامي، التي أفسحت المجال للحركات المسلحة للتمدد بشكل غير متوقع، ما أسفر عن استحواذها على أكثر من 60 بلدة وموقعًا، من بينها نقاط استراتيجية مثل “الفوج 46” و”مركز البحوث العلمية” وأماكن أخرى على طول طريق “إم 5”، وصولًا إلى داخل أحياء غرب حلب.
ومع أنَّ التصعيد العسكري الذي قاده الجيش النظامي السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيين ليس جديدًا، بل هو استمرار لسلسلة طويلة من الضربات الجوية، والاشتباكات المستمرة، والعمليات “الانغماسية” التي دامت طوال السنوات الماضية، فإنَّ بيئة الصراع السوري، رغم كل الهدنات، بقيت تحتفظ بكوامن صراع خفية، تطل بين فترة وأخرى متأثرةً بموازين القوى الإقليمية.
تحليل توقيت عملية ردع العدوان
هذا التصعيد الأخير يأتي في توقيت دقيق، نتج عن تقييم عميق للبيئة الإقليمية، بما ينعكس على الخارطة السورية بأسرها، وقبل أن نغوص في تفاصيل التوقيت الذي ارتبط بالعملية الأخيرة، والظروف التي أرجعت المنطقة إلى ما قبل مارس 2020م، ذلك المخاض الذي حمل في طياته رسم حدود النفوذ بين الفاعلين في مناطق خفض التصعيد، لابد من الوقوف عند العوامل الذاتية العميقة التي أسهمت في تشكيل معركة حلب.
تلك التي كانت مؤشرات هشاشتها قد تسرّبت منذ مارس 2020، وكشفت عن رغبة الأطراف في تعزيز سلطتها وتمترسها داخل مناطق نفوذها، وانتظار اللحظة المناسبة لإحداث تحول جذري في الواقع لصالحها، متشبثة بخيارات صفرية تقوم على فرضية الحسم العسكري بعيد المدى.
النظام البعثي السوري راهن طويلًا على “الصبر الاستراتيجي” لتجاوز كل محاولات الحل السياسي، وهو ما ظهر جليًا من خلال تهربه من الانخراط في مسار التطبيع مع أنقرة في الآونة الأخيرة، إلى “هيئة تحرير الشام” التي جعلت من خيار “التمسك بالحل العسكري” و”البناء في آن مع الحرب” أساساً لسرديتها.
كما أن الفصائل المسلحة لم تكن بمعزل عن هذه المواقف، إذ حافظت هي الأخرى على خيار المناورة في مساحات ضيقة، وتجلى ذلك في انخراط بعض منها في رفض فتح معبر “أبو الزندين“، قبل أن تشارك في العملية الجارية.
ولكون الاستعداد الداخلي كان حاضرًا بقوة، فإنَّ توقيت المعركة كان محكومًا بالبيئة الإقليمية المشتعلة، إذ تشير المؤشرات إلى أن القرار تم اتخاذه بناء عن التطورات التي طالت وكلاء إيران في لبنان وسوريا، خاصة بعد الضربات القاسية التي تلقوها هذا العام، فضلا عن انشغال روسيا في حربها الأوكرانية، وتحديدًا في “معركة كورسك“، وسط تصاعد احتمالات الضوء الأخضر الغربي الذي قد يُعطى لكييف لاستهداف العمق الروسي.
كما كانت العملية العسكرية “ردع العدوان” قائمة من دون أن يكون هناك تدخل حقيقي من “حزب الله” الموالي لإيران، في الدفاع عن مواقع الجيش السوري النظامي، إما بسبب الضربات الموجعة التي تلقاها، أو بسبب “الانتقام” من النظام السوري الذي ابتعد عن دعمه في حرب لبنان، مع دخول المعركة بين روسيا وأوكرانيا مرحلة حاسمة، في الوقت الذي كان العام في حالة انتقالية بانتظار وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض.
ومن ثم، لا يمكن إغفال أن التوقيت ذاته جاء بعد جمود المحادثات المتعلقة بمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، نتيجة تعنّت الأخيرة، ومبالغتها في تقدير قدراتها التفاوضية، وفرض شروط مُسبقة.
التطورات الميدانية بعد عملية ردع العدوان
شهدت الأيام الأخيرة تقدمًا ميدانيًا سريعًا من غرفة “العمليات العسكرية” التابعة للفصائل المسلحة، ما شكل مفاجأة في سياق الوضع القائم، فأظهرت الدفاعات التابعة لقوات الجيش النظامي السوري ضعفًا واضحًا في غياب دعم الميليشيات الإيرانية، الذي كان معتمدًا عليه سابقًا، وكذلك الإسناد الجوي الروسي، وعلى الرغم من ذلك، قاومت بعض المناطق بشكل ملحوظ مثل “عندان” في ريف حلب الشمالي، و”سراقب” في جنوب شرق إدلب، .
في المقابل، برزت قدرات تنسيقية عالية بين الفصائل المسلحة، تجلت من خلال غرفة العمليات الجديدة وتنسيق الإعلامي الذي نجح في ضبط السردية، ما أدى إلى توقف الحراك المسلح لـ”هيئة تحرير الشام” بل دفع بعض خصومها للانضمام إلى الجبهات المفتوحة، كما لعبت التقنيات الحديثة، خاصة الطائرات المسيّرة، دورًا كبيرًا في المعركة، بعد أن عملت الفصائل على تطويرها في السنوات الأخيرة، ولم يقتصر التطور على الجانب العسكري فقط، بل شهدت مناطق إدلب أيضًا تأسيس مؤسسات جديدة مثل “الكلية العسكرية” ومراكز التدريب، التي ساهمت في تعزيز القدرات التكتيكية والعملياتية.
من جانبها، تمكنت “هيئة تحرير الشام” من تأسيس غرفة عمليات نوعية تديرها من الخلف، مما ساعد على ضم فصائل الجيش السوري النظامي إليها، وبالتالي تقديم العملية على أنها عملية معارضة سوريا بالكامل، وإن كانت نتائج المعركة غير محسومة بعد، إلا أن العلاقة بين الهيئة والفصائل ستدخل مرحلة جديدة، قد تؤدي إلى تعزيز موقع “تحرير الشام” كقوة عسكرية فاعلة قادرة على اتخاذ قرارات الحرب ضد النظام السوري.
أما على صعيد الحسابات الاستراتيجية، يُتوقع أن يظل سيناريو العودة إلى التهدئة الهشة هو الخيار الأسوأ، بالنظر إلى أن أي نزوح جماعي للسكان يُعد خطًا أحمر بالنسبة لتركيا، وبالرغم من ذلك، يرى القادة العسكريون أن أي مكاسب تكتيكية قد تفتح الأبواب لتحقيق مكاسب استراتيجية غير متوقعة.
كما أن السيطرة على بعض القرى أو المواقع لا يشكل نصرًا استراتيجيًا بحد ذاته، بل هو تقدم تكتيكي طالما أنه لا يشمل مناطق ذات أهمية جغرافية كبرى مثل مدينة حلب، التي كانت هدفًا استراتيجيًا رئيسيًا منذ أشهر، مع التركيز على عملية محدودة تسمح بالتكيف مع المعطيات الميدانية.
سيناريوهات الوضع في سوريا بعد هجمات حلب
المعركة التي انطلقت بأهدافٍ محدودةٍ، واتسعت تدريجيًا بفعل الفرص التي أتاحتها الظروف الميدانية، لا تزال في مراحلها الأولى، وعلى الرغم من أنه من المبكر إصدار أحكامٍ قطعيةٍ بشأن النتائج، إلا أن المعطيات الميدانية تشير بوضوح إلى أنَّ المعركة تتجه نحو ثلاثة محاور رئيسية: ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي والجنوبي الشرقي، وأحياء مدينة حلب الغربية، في اتجاه مركز المدينة.
إلى جانب ذلك، قد تطرأ احتمالية لفتح محور جديد في ريف حلب الشمالي، صوب مناطق سيطرة “وحدات حماية الشعب” الكردية، في تل رفعت وبناءً على هذا، فإنَّ تطور الأحداث في الأيام المقبلة سيضع المنطقة أمام سيناريوهين بارزين، تحدث عنهما الباحث فاضل خانجي المهتم بالشأن السوري في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية.
السيناريو الأول: عودة تفاهمات خفض التصعيد
بدأت العملية بأهدافٍ محدودة، تمثلت في توسيع مناطق السيطرة المحاذية لإدلب، ووقف القصف المتكرر للجيش السوري النظامي، مع تأمين عودة جزء من المهجرين، ويعني هذا أنَّ مساحات السيطرة ستظل ضمن نطاق مناطق خفض التصعيد، مما يساهم في الحفاظ على آليات أستانا على الصعيدين الأمني والسياسي.
ومع مرور الوقت، يبدو أنَّ فرص تحقق هذا السيناريو تتقلص، في انتظار ما ستسفر عنه معارك غرب حلب، وبغض النظر عن طبيعة مساحات السيطرة التي ستنتج، فإنَّ المنطقة ستعود إلى حالة من عدم اليقين، مشابهة لتلك التي سادت ما قبل مارس 2020.
السيناريو الثاني: نهاية التفاهمات السابقة
ويحدث هذا السيناريو إذا تمكنت الفصائل المسلحة من دخول مدينة حلب، فإنَّ ذلك يعني بشكلٍ حاسمٍ انتهاء وقف التصعيد وآليات المراقبة المنبثقة عن أستانا، وهو ما سيدخل سوريا في مرحلة جديدة من الصراع، وقد تفرز هذه المرحلة إما ولادة تفاهمات تركية-روسية جديدة، على ضوء خارطة السيطرة في الميدان، أو تفتح الباب أمام موجة صراع طويلة الأمد، من الصعب التكهن بطبيعتها أو مسارها في الوقت الراهن.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال