رسالة إلي ولدي .. شجرة التوت
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
إلى ولدي أنت لا تعرف التوت، ربما لا تعرفه على الإطلاق، أو لم تأكله من قبل، ليس هذا تقصيراً من والدك أو لا سمح الله والدتك، فقط أنا لا أقتنع بتلك الحبات المرصوصة على قفص أو داخل “مشنة”، خُلق التوت من أجل أن نأكله مباشرة من على شجرته، حين ترتعش الحبة بين يديك لحظة قطافها.
كان لوالدك شجرة توت أمام منزلنا القديم في القرية، وكان تسلقها هوايتي الأثيرة، وتناول ثمراتها هي اللحظات الأسعد، ومناجاتها مع غروب الشمس قبل الهروب إلى البيت بعيداً عن الظلام هي اللحظات الأنقى.
شجرة عجوز ربما شهدت مولد جدك لكن لم يسكنها إلا والدك حكى لها عن أحلامه التي لم يتحقق منها شيئاً، ذهبت رماداً للسنين ولم يحفظها سوى تلك الشجرة التي لم أرها منذما يزيد عن 25 عاماً.
يخشى الكبار أحلام الطفولة لأنها تكشف ضعفهم ومدى قباحتهم، لكني أخشى العودة لأن الذكريات خبز الأيام المُر صارت أثقل من أن تحملها روحي.
كان بيتنا في البلد ملاذي الصيفي، تنتهي الدراسة فيشد جدك الرحال إلي مسقط رأسه جامعاً في سيارته أسرته بالكامل، لم أعرف حتى الآن لماذا كانت تتغير لهجته في طريق الذهاب لتلك اللكنة الريفية وتبقى طيلة ما يزيد عن شهرين حتى رحلة العودة للقاهرة.
في البلد -كما كنت أسميها دائما وكأنها وحدها الوطن- كان التجسيد الحقيقي لمعنى العزوة، أسرة كبيرة يختلط فيها أبناء العم داخل جدران واحدة ومراحل عمرية مختلفة تجمعهم جميعاً لحظات الغداء أو الإفطار في رمضان على “طبليات” متعددة تحتمل كل هذا العدد، ثم السمر ليلاً للعب “الأولى” داخل البيت أو لعب الكرة في “الجُرن” المضاء، والجُرن يا صغيري هو المكان الذي يستخدم تجفف فيه الثمار ويتم فصل الحبوب.
كان الصيف في قريتنا مدينة ملاهي كبيرة بدءاً بنزول الترعة في ذروة عصر إعلانات البلهارسيا تحت عنوان “ادي ظهرك للترعة” من بطولة الفنان الراحل محمد رضا وعبد السلام محمد، ثم أكل التوت على الشجرة وسكناها لبعض الوقت، وصيد السمك ولعب الاستغماية ومساكة الملك والكرة قبل السهر والسمر الليلي مع أوراق اللعب.
حرمني هذا من الاتصال بأصدقاء طفولتي من جيرتي ومدرستي صيفاً لسنين طويلة لكنه منحني الكثير من الذكريات بقي أروعها هو شهر رمضان، لهذا أبداً لم يستطع والدك بقية عمره أن يفطر على مائدة خالية غير مزدحمة بالأحباب.
الأكل وحدك مهمة شاقة تشبه إخراجه، بينما الأكل وسط من تحب ونس ودلع خاص يمنحك السعادة.
في البلد مارست متعة اللعب حافياً وجربت ذات يوم تقليد بطلي المفضل دوق فليد في القفز لركوب جريندايزر من سطح منزلنا المكون من دور واحد، لكنني لم أجد سلاحي السري ولحسن الحظ استقبلتني كومة من الرمال، في الحقيقة يا ولدي لم أفقذ الأمل في الطيران بعد ربما أحققه يوماً ما أو أكون قد حققته بالفعل قبل أن تقرأ تلك الرسالة.
في قريتي عشقت الورد البلدي الأبيض للمرة الأولي عندما تفتحت زهرة يوماً بين يدي فلم أعترف بعدها بألوان أخرى، كما عرفت أيضاً معنى أن تفخر لأن لك آصلاً ما في مكان غير القاهرة، حين كنا نرى القاهريين بلا أصول، ربما تعلمت الآن أن الأصل هو أن تكون صادقاً عاشقاً شجاعاً ومخلصاً بغض النظر عن الأنساب ومسقط الرأس، لكنني زهوت بهذا في طفولتي.
في الطفولة لا يعنينا الآخرون، ولا تعني الآخرين أخطاؤنا التي لن يتوقفوا عن البحث عنها حين نكبر وإن لم نخطئ لاخترعوها.
عدت بك مرة أخرى لسنين الطفولة بعدما كنا قد دخلنا الكلية
أستمحيك عذرا
إلى لقاء
والدك
إقرأ أيضاً
8 طرق لتغيير من تحب إلى الأفضل
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال