ليت زمن الكتاتيب يعود يومًا .. في حب الشيخ جمال أبو قرقار
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
آهٍ لو عادت بي الأيام إلى زمن الكتاتيب .. اللعنة على تلك الساعة المشؤومة التي قلت فيها ما قاله أبناء جيلي «إمتى نكبر ونبطل نروح الكُتَّاب»، يتملكني الشجن والحسرة في آنٍ واحد؛ فحنيني إلى كُتَّاب الشيخ جمال أبو قرقار لم ينقطع، وحسرتي على انتهاء طفولتي ستلاحقني.
زمن الكتاتيب .. لو حكينا يا حبيبي نبتدي منين الحكاية
قضيت في كُتَّاب الشيخ جمال أبو قرقار 13 عامًا ومنذ أن تركته حتى الآن عشت 10 سنوات وأنا أجتر شريط ذكريات جيل بأكمله، مشاعر عبرت عنها أول 15 ثانية من مطلع موسيقى أغنية عبدالحليم حافظ «لو حكينا يا حبيبي نبتدي منين الحكاية».
كنت أمام الفُرْن البلدي بجانب أمي طفلاً في سن الخامسة عام 1997 م أتلهف كبقية أطفال الجيران، خروج الخبز لتحشوه لي بالسمن والسكر، حتى صعد أبي وقال « إنت لسه قاعد جار أمك ؟، انت اتفطمت خلاص، قوم معاي».
أمسكني أبي من يدي وسرت معه إلى الدكان فاشترى لي كراسة وقلم رصاص فسألته ؟ «هو أنا هروح المدرسة ولا إيه ؟» فقال «إنت هتروح المعهد الأزهري بس مش دلوق، بعد 9 شهور هقدملك في الأزهر»، فاستغربت وسألته «طب وليه جبتلي الكراسة والقلم ؟»، فأجابني «عشان تروح الكُتَّاب ـ نطقها بكسر الكاف»، فسألته «ما هو الكُتَّاب ؟» فأجابني «اللي هيعمل من مخك قيمة»، فقلت «طب والمعهد ؟» فقال «لو مخك مفتح الكُتَّاب هيخليك تسبق المعهد ؟».
لدعاة رفض الضرب .. الشيخ لم يكن متوحشًا
قبل أن أجتر ذكرياتي مع الكتاب ربما سيستغرب القارئ «ما المحبب في مؤسسة تسبب عقدة للأطفال بإهانتهم عبر الضرب»، لأقول «أنا لا أبرر الضرب، بل إن الشيخ جمال كان يرفضه ويستخدمه للضرورة، كان ثقافة جيل، وجيل زمان غير جيل الآن بأطفالهم ومعلميهم وحتى أولياء أمورهم، فزمن زمن الكتاتيب على أيام جيلي ليس كحال الكتاتيب الآن (هذا إن كان هناك كتاتيب من الأصل)».
زمن الكتاتيب على أيام جيلي كان الشيخ جمال يعتبر الكُتَّاب رسالة لا وظيفة تابعةٍ للأوقاف، فطوع لها كل شيء يمتلكه، فحين وضع توسعةً لمنزله لم ينسى الكُتَّاب، ولحبه في القرآن الكريم اعتبر نفسه خادمًا له وجعل أهل بيته كذلك، بل لم يتكبر الشيخ جمال على العلم وهو كبير، فهو بالأساس تربوي، لكنه التحق بمعهد القراءات وهو على درجة مدرس أول وكنا نراه في المعهد يجلس على التختة ويتلقى علوم القراءات.
نعم كان هناك ضرب في جيلي، لكن الشيخ جمال كان يتعامل مع الضرب بفلسفة تربوية لا عُقَد نفسية، فهو مثلاً كان يضرب بالفلكة على أرجل الطفل ثم يجلسه على الدكة ويداعبه في رسالة مفادها «قبل ما أوصل الدكة كنت زيك، اتعلمت بالغصب لحد ما فهمت».
كان عندنا حبس في بيت الشيخ جمال ولم يكن يرحم توسلات أحد فكلنا نود الذهاب لبيوتنا من أجل اللعب والأكل، لكنه كان يرفض، ولما كبرنا فطنا فلسفة ثقافة الحبس، فقد أراد أن يجعلنا نراه كـ جمال الإنسان، كيف يجلس في بيته ويراجع ويسمع لنفسه وكيف يأكل وكيف يتوضأ وما هي كتبه، وما هي تفاصيل عالمه، فصار «المحابيس» هم المميزين عن «الطلقاء» لأنهم رأوا الشيخ بكل تفاصيله.
كنا ونحن صغار نكره أسلوب الشيخ جمال بسبب أسئلته، فهو يتعمد طرحها في متشابهات الآيات، ولما كبرنا رويدًا اكتشفنا (وتحديدًا أنا اكتشفت) أنه كان يربي فينا قوة الذاكرة، فمن درس تخصصي أو كتب فيه وهو التاريخ فسيقع في المتشابهات وسيخطئ أخطاءًا كارثية، فتسبب الكُتَّاب في قوة التركيز والذاكرة.
ولو طبقنا قاعدة «المصلحة المستفادة» لوجدنا أن النظام التعليمي الحالي لا يفيد الطالب فهو يتعلم من أجل أن ينجح لا من أجل أن يفهم، لكن في الكُتَّاب وعلى يد الشيخ جمال أبو قرقار فالمسألة مختلفة، فهو لم يعتبر القرآن مادة دراسية فكنا نسبق المنهج، وهذه ليست القيمة فحسب وإنما كنا في المعهد الأزهري نكاد ننسى مقرر الصف الرابع بمجرد دخولنا الصف الخامس، لولا كُتَّاب الشيخ جمال.
تسبب كُتَّاب الشيخ جمال لإخلاصه أنني شخصيًا لا أجيد قراءة القرآن من غير أحكام التلاوة، ورغم أني درستها في المعهد كمقرر دراسي لكني نسيت شرح المدرس وتذكرت شرح شيخي لأنه كان يعتبر ذلك رسالة لا إنهاءًا لمقرر دراسي.
ودخلت إلى زمن الكتاتيب مع الشيخ جمال أبو قرقار
بيت واسع جدًا ومزدحم للغاية، فعشرات الأطفال البنين والبنات من سني يتراصون في حلقات متباعدة ويرأس كل حلقة شاب يكبرني، وفوقهم الشيخ جمال بعصاه الشهيرة، والأصوات تتمازج بين ترديد جماعيٍ للحروف الأبجدية وبعضهم يردد نصوص قصار السور.
اقرأ أيضًا
خالد المنفلوطي .. أستاذي العظيم الذي صفعني وتنبأ بكل ما حدث
كان الشيخ جمال بقامته الطويلة وعصاه الأطول منه مخيفًا بالنسبة لنا، لكن صوته رقيقًا عكس كلامه الغليظ كأبي، فقد دار بينهما الحوار بالشعار الأبوي المقدس «اكسر وأنا أجَبِّس»، فطالعتهما وأنا خائف ليمسكني الشيخ جمال ويلحقني بحلقة الأبجدية ويبدأ المشوار.
فجر الإسلام ببصمة الفوهرر
كان الكُتَّاب يوميًا عدا الجمعة، ولكل 24 ساعة في كُتَّاب الشيخ جمال أبو قرقار حكاية وحكاية، لكن يبقى الخميس هو الاستثنائي دونًا عن بقية الأيام، فقد سميته بعدما كبرت «يوم فجر الإسلام ببصمة الفوهرر»، فالذي كان يرسب في التسميع على الشيخ يلقى ما لقيه المسلمين في فيلم فجر الإسلام من قريش لكن على طريقة معسكرات هتلر، فالتقصير أنواع ولكل نوع عقوبة.
كنا ندخل إلى بيت الشيخ ونبدأ بمرحلة «دفع الخميس» وهو مبلغ أسبوعي نورده للكُتَّاب، كان جنيهًا لمرحلة الأبجدية حتى سورة ياسين، وجنيهان من ربع القرآن حتى منتصفه، و3 جنيهات من نصف القرآن حتى ختمه بالأحكام».
بعد إتمام مرحلة «دفع الخميس» ندخل إلى مرحلة «ألواح الخمسة»، وهي مرحلة تسميع ما حفظناه على يد الشيخ خلال 5 أيام، وتكون إحدى بنات الشيخ هي المشرفة على تلك المرحلة، وكان المجتاز لهذه المرحلة هو صاحب الحظ الأتعس فنجاحه يعني الذهاب إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة «الماضي»، أما الفاشل في مرحلة الألواح الخمسة فمصيره رحيمًا.
كانت مرحلة «الماضي» هي الثالثة في فلتر يوم الخميس والمشرف عليها هو الشيخ جمال شخصيًا، وهي المرحلة الخاصة بماضي الشخص مع الكتاب وفيها يسأله الشيخ جمال أسئلة من منتصف السور ومتشابهات الآيات لمن تلقى ربع القرآن فأكثر.
إشكالية يوم الخميس في عقوبتها ليست فقط متمثلة في الفلكة أو الضرب على اليد، وإنما لأن يوم الخميس هو يوم السوق، والأم تبدأ في الطبخ في نفس موعد ذهابنا إلى الكُتَّاب، فمن رسب في هذا اليوم يحبسه الشيخ حتى ينجح وهذا معناه أنه لن يأكل مع أهله !.
غرفة الحبس كانت واسعة والغريب أن بها تلفزيون ولم أفهم هذا الاحتجاز الغريب حتى فطنته، فقد كنت في تلك الغرفة أُنْهِي عقوبتي على تقصير عدم حفظ تاريخ الجزري وأدركت أن وجود التلفزيون ليس للترفيه وإنما كمين، فالشيخ كان يسأل الفتى منا ماذا شاهد عبر التلفزيون، فكنا نجر له مشاهد الأفلام بذاكرة حديدية ليعصف بنا بالفلكة قائلاً «يا فشلة، بتحفظوا كلام البشر وتنسوا كلام ربنا»، وأثر هذا علينا بدرس أن لكل مقام مقال حتى الترويح له وقت.
ليت زمن الكتاتيب يعود يومًا
في سبتمبر 2010 غادرت الكُتَّاب تاركًا ورائي 13 عامًا درست فيها الأبجدية والقرآن والتجويد والنحو والتاريخ، واستقبلت مع الجامعة حياةً جديدةً تتأرجح بين تعب ممتع وسعادة بها تعاسة بحكم المسؤولية، مرحلة الشباب وما بعدها مضطربة بالأخطاء والإخفاقات والنجاحات ورغم كل هذا فالمؤكد أن سر البَرَكة في جيلي أو حتى علة وجود البراءة في مراحلنا العمري سببها في المقام الأول بَرَكة كُتَّاب الشيخ جمال أبو قرقار.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال