سفر أمثال أمي…حكايات من المنيا الحلقة 1
-
محب سمير
كاتب نجم جديد
كانت أمي تحب الرسم وهي طفلة.. كانت تجيده.. أذكر أنها كانت ترسم لي لوحات المدرسة التي نعلقها في الفصل وأنا طفل صغير.. رسمت لي ذات مرة طفل يغسل يديه على حوض الغسيل.. أذكر هذه اللوحة بالذات.. ربما لأني لونتها بنفسي بتشجيع منها.. تمر أمام عيناي الصورة الآن واللوحة معلقة في الفصل.. وأتذكر أني كنت فخور جدا يومها.. وكنت أتباهى أن أمي تجيد الرسم.. بينما أغلب أمهات أقراني في فصل 2\أول الابتدائي لا يعرفون القراءة والكتابة.. كان ذلك عام 1987 في قرية تحت سفح الجبل في المنيا.. وكانت الفتاة التي تحظى بتعليم ولو بسيط وقتها أمر نادر.
أمي خرجت من المدرسة وهي في “سنة رابعة” ابتدائي.. لم يجبرها أحد.. ولم يكن مستواها هو السبب في عدم مواصلتها الذهاب إلى المدرسة.. كلما تتذكر أمي ذلك تحزن وتندم على “خيبتها”.. فقد كان من المفترض أن تذهب إلى مدينة ملوي بعد سنة رابعة لتكملة التعليم الأساسي في مدرسة للبنات بالمدينة.. تقول: ” كنا أربع بنات.. تلاتة وأنا الرابعة.. أبويا الله يرحمه كان عايز يوديني.. وأنا اللي من خيبتي مارضيتش لما لقيت البنات اللي معايا مش عايزين يكملوا”.. لكن ما جعل أمي ترفض تكملة التعليم هو الخوف من الفشل.. كانت سبقتها قريبة لها وذهبت إلى المدرسة في ملوي ورسبت لمدة ثلاثة أعوام.. لتعود إلى البلد محطمة وتلقى نفس مصير الأخريات.. الزواج.. خشت أمي أن يحدث لها ما حدث مع قريبتها.. رغم أن أمي كانت متفوقة عنها في الدراسة.. لكن أمي تعترف أنها حظها قليل.. واختياراتها دائما تجي على راسها.. وتظلم نفسها بنفسها.. ودائما تقول على نفسها ” على ما يسعد المنحوس يكون عمره نفد”.. لكن الحقيقة أن أمي تظلم نفسها مرة أخرى في الحكم على نفسها.. فأغلب قراراتها أو آرائها دائما ما تكون لإنصاف الأخرين الذين تحبهم.. إن كان أخ، أب، أم، ابن، زوج أو حفيد.. دائما ما تجيء على نفسها من أجل أحدهم.. بتفان وحب كبيرين لا تعرف غيرهما.
يتدخل أبي بطريقته المعهودة بسخرية لاذعة وصوت طبقته العادية عالية جدا في الأساس:
– كنتي ها تطلعي مهندزة.. ويقولوا المهندزة راحت المهندزة جات
لكن أمي التي لا تستطيع مجاراة أبي في سخريته، ردتها له هذه المرة بقصف جبهة عنيف
- عالأقل ما كنتش اتجوزتك أنت.. ولا كنت لقيت واحدة تاخدك
كاد الأبناء والأحفاد أن يغشى عليهم من رد أمي الأقوى في تاريخها في المناكفة مع أبي.. وأكملت: “ماكنتش اتجوزت من أصله”.
كانت أمي بالفعل وهي صغيرة وبعد تركها للمدرسة تريد الرهبنة.. كانت وهي صغيرة تصلي طوال اليوم.. وتحفظ الترانيم مع جدي.. وتذهب كل أحد إلى الكنيسة في سعادة كأنها ذاهبة إلى حفل.. ترفض الزواج وسيرته.. ودائما تقول لجدي وستي أنها تريد الرهبة.. الحمد لله أنها لم تحقق هذه الرغبة لتكون هي أمي.
كانت أمي ولازالت تحب الصلاة بخشوع.. وتحب أن ترنم بصوتها.. لذلك ليس غريبا أني وكل إخوتي نحب الموسيقى ونتذوقها.. كل حسب دماغه.. لكن ليس بيننا من لا يحب الغناء والموسيقى.. أرى في أمي فنانة شاملة.. تجيد الكتابة والقراءة والرسم ومرنمة.. وكانت زمان تسألني عن المطربات في التليفزيون.. “مش دي شادية؟” مرة.. ومرة أخرى تقف وتستمع إلى غناء إحداهن وهي في طريقها إلى المطبخ.. وعندما أختبرها إن كانت تعرف من هي التي تسمعها تسعدني بمعرفتها.. “دي ليلى مراد حد ما يعرفهاش”.
إقرأ أيضًا…الثلاثي المرح .. أول فرقة غنائية في مصر
أمي تجيد أيضا عمل العمليات الحسابية.. بالطبع ساعدها ذلك في مساعدة أبي في تجارته.. عدة كراسات قديمة تحتفظ بها أمي حتى اليوم، من حسابات الفلاحين الذين كانوا يوردون لأبي “الجبنة” كل ليلة.. عندما أعاود تصفحها الآن أرى كم كانت أمي منظمة ودقيقة في تدوينها.. كل صفحة تحوي اسم أحد الفلاحين.. على رأس الصفحة الاسم “عم حنس أبو فلان” ومقسمة الصفحة إلى أعمدة.. الأول فيه عدد كيلوهات الجبنة التي وردها وخانة أخرى للتاريخ.. والأخيرة للفلوس التي يسحبها الزبون.. خط كبير وواضح ومنظم وجميل أيضا.. كانت أمي ترسم الأرقام والأحرف بقلمها الرصاص الذي تحبه.. أذكر “تلبية” قلمها الرصاص بغطاء قلم جاف أزرق.. أتذكر أيضا يوم كنت أناولها “الكشكول” من قفص معلق على الحائط وسقطت من فوق الغسالة التي أقف عليها بعدما تزحزح غطاء الغسالة القديمة وسقطت على قدمي واتميت في الأرض.. يومها جبر “سيدي فكري” قدمي بجبيرة بالدقيق والبيض لمدة أسبوعين لم أغادر فيها البيت. ولو كنت سقطت في أيام الدراسة كنت فرحت للغياب.. لكن حظي العسر أن أسقط من فوق الغسالة ويتم وضع قدمي في جبيرة في عز الصيف والإجازة.. وكل ذلك بسبب هذا “الكشكول”.
تقول أمي إن أحدى الكراسات كانت تحتوي على 350 اسم كان يتعامل معهم أبي في جمع الجبنة الضاني الملوانية الشهيرة وتعبئتها في صفائح وبيعها في مدينة أسيوط.. يفتخر أبي أنه باع كيلو الجبنة في أسيوط ب “ربع جنيه” وكان ذلك في سبعينيات القرن الماضي.. يحفظ أبي مدينة أسيوط عن ظهر قلب.. شارع الأربعين.. و القسرية والجمهورية والحمرا.. كان أبي هو دليل رجال قريتنا في أسيوط.. أي شخص من البلد يريد الذهاب لقضاء طلب أو حاجة يسأل أبي.. وكان أبي صاحب واجب عن حق وكريم وشهم مع الجميع.. كان يسافر مع المرضى لتلقي العلاج في مستشفي أسيوط الجامعي الشهير.. و “المبرة”.. ولا يتركهم أبدا.. فقد كانت أسيوط ولا زالت تشتهر بمستشفى جامعتها في الصعيد كله.
أبي يجيد الحساب أيضا.. يبرع فيه.. لكنه له طريقته الخاصة.. فهو “بصمجي” كما كان يردد دائما.. أبي يعلق عين في السقف ويقول لك في أقل من 10 ثوان ضرب 13.50 في 27.75 بدقة مدهشة.. تعلمها وأجادها وبرع فيها طوال نصف قرن من التجارة والربح والخسارة.. وهي مهبة تجدها عند أغلب التجار الذين لم يتلقوا تعليم ولا يستخدمون الآلة الحاسبة أو الورقة والقلم.. لكن أبي لديه ذاكرة قوية لحفظ أدق التفاصيل والعناوين والتواريخ أيضا.. أتعجب كثيرا من حضور ذهنه واتقاده دائما.. ماذا كان لو تعلم أبي.. فلدي عم أصغر من أبي قد تعلم ونال بكالوريوس التجارة ويعمل موظف في مدينة المنيا.. هل كان أبي سيصير موظفا لو تعلم.. أبي يليق به التجارة والزراعة والمغامرة أكثر.. ربما هذا هو الفارق بين أبي وأمي.. فهو مغامر ودائما ما كان يتخذ قرارات مصيرية.. كشراء قطعة أرض في المدينة وبناء بيت بالأعمدة في ومن كان الذي يخرج من قريته هو المجنون أو الموظف الذي يذهب خلف تكليفه فور تخرجه.. بينما كانت أمي لا تحب المغامرة.. وتتأنى كثيرا في اتخاذ قراراتها.. حتى لو كان الأمر يتعلق بأمور تافهة، مثل التخلص من الزجاجات الفارغة التي تحتفظ بها في كل أركان المنزل.. مؤكدة إنهم “خسارة هاينفعوا”.
الكاتب
-
محب سمير
كاتب نجم جديد