همتك نعدل الكفة
1٬237   مشاهدة  

سفر أمثال أمي .. حكايات من المنيا 2 ” الحمارة اللي بقرش ولدها بنكلة “

الحمارة


“الحمارة اللي بقرش ولدها بنكلة”.. الحقيقة أن هذا المثل “ماركة أبي”.. لم أسمعه من أحد سواه.. سواء في قريتنا أو أي مكان أخر في بر مصر .. هكذا دائما أبي صاحب تفرد خاص، خصوصا لو تعلق الأمر برأيه.. أو بالشتيمة الحقيقة.. فأبي لديه قاموسه المبتكر من الشتائم أيضا.. أبي موهوب حقا في الشتم والسب واللعن بمسخة كوميدية رهيبة.. كل الشتائم.. البذيء منها و الغريب.. وغير المتوقع في تصريفه.. أذكر أنه وقت حالات عصبيته التي يشتهر بها، ونحن صغار، خصوصا لو كان عائد من الغيط في عز القيظ.. أو في مشوار لقضاء شيء ولم يوفق.. وفور رؤيته لنا نلعب في بيتنا الواسع مع كل أطفال الشارع والشوارع المجاورة يقول بصوت عال يخيف الجميع “تعو تعو” وهي لفظة تقال للكلاب لجمعها في قطيع.. كنا بمجرد سماع صوته نجري أنا وإخوتي ونحن نضحك للاختباء في أي مكان في بيتنا الوسيع، بينما يجري باقي الاتفال مهرولين للخروج من البيت والهرب من أي مخرج من مخارج البيت المتعددة.

جزرة وجحش
جزرة وجحش

من أبي أيضا سمعت “جزرة وقطمها جحش” وليس من “الكبير قوي” أو أحمد مكي.. أيضا “أمسكه سلك النور العريان”.. إن أحد أسباب حبي لمسلسل “مكي” أنه استعمل لغة الصعايدة الحقيقية، خصوصا في الشتائم أو الدعاء على أحد.. وهذا ما يعرفه الصعايدة جيدا فأحبوا العمل، ذات ساعة روقان سألته وأنا طفل ما معنى الجملة فقالي لي “حد هياكل ورا الجحش”؟ فأدركت أنه يقصد ان الموضوع انتهى ولا ينفع الحديث فيه كما “جزرة قطمها الجحش”.

اقرأ أيضًا 
سفر أمثال أمي…حكايات من المنيا الحلقة 1

لكن أغرب ما يشتم به أبي، وما حير علماء اللغة فعلا هي جملة “أولاد الصُبية”..، وبعد بحث مطول وتعب من فريق بحث مكون من كل من يعرف “ألف باء” في بيتنا.. توصلنا إلى أن الاحتمال الأقرب أنه لفظة “الصُبية” متحرفة من كلمة “الصابئة” بمعنى “الزانية”.. وبالطبع أبويا ولا يعرف ما الذي نقوله هذا.. هي الشتيمة طلعت خلاص ومؤكد متلقيها فهم إنها إهانة وابتلعها هو الآخر دون أن يفهم “يعني إيه؟”
رغم عصبية أبي وزعيقه المتكرر، لا أذكر أنه مرة مد يده على أحد فينا.. أو تأخر عن أي طلب لنا.. أبي طيب جدا.. والجميع يعلم ذلك.. ويعلمون أنه صادق وصريح.. واللي في قلبه على لسانه.. ويصفو سريعا ويسامحك حتى لو كنت واكل حقه.. وكثيرا ما سامح أبي في حقه، خصوصا لو فلوس عند أحدهم، ويستعوض ربنا ويسب 100 دين.. وانتهى الأمر.

أدركت معنى طيبته وحنانه أكثر ووعيت ما يحمله من حب لأسرته عندما كبرت.. ليس شرطا أن تنجب الأبناء لتفهم والديك.. يكفي فقط أن تكون بجوارهم عندما تكبر ويكبرون هم.. هل لابد لنا ألا نعرف علاقتنا بآبائنا وأمهاتنا الحقيقة إلا عندما نكبر؟ ألا نعرف عمق مشاعرهم ورغباتهم وطريقة تفكيرهم إلا متأخر جدا؟.

حمارة
حمارة

” الحمارة اللي بقرش ولدها بنكلة”.. هكذا يؤمن أبي ويصدق.. فكيف لحمارة هزيلة أن تنجب بغلا عفيا؟ هكذا علمته الطبيعة.. البذور الجيدة تؤتي بثمار جيدة.. ثلاثين وستين، ومائة.. بينما الضعيفة تموت فور انباتها.. حتى لو كبرت لا تطرح ثمرا.. أبي يؤمن أيضا أن الشجرة التي لا تعطي الثمر، على صاحبها أن يقطعها أفضل، وينتفع بحطبها.. ويخلي المساحة لشجرة جديدة جيدة.

أبي كغيره من الفلاحين في مصر.. يشقى ليلقى.. حتى لو كان ما يلقاه شحيحا مقارنة بمجهوده.. لكنه لا يربي حيوانا في المنزل مثلا إلا لو انتفع منه.. لا نربي الحيوانات عندنا للرفاهية كما أبناء المدينة.. ولا نسمح لعواطفنا أن تتحكم فينا تجاه ما نربيه.. نحب الحيوانات التي نربيها.. لكن لا تنجرف مشاعرنا تجاهها ببراءة.. ولا نطلق عليها الاسماء حتى لا نتعلق بها وبذكراها.. فهي في النهاية ستذبح لتؤكل.. فما فائدة تربيتها في الأساس؟.

خلاف ذلك تجد أن هناك فوئد أخرى لتربية الحيوانات والطيور في منازلنا.. فمثلا الماعز عندنا يخلصنا من كل الأوراق والمخلفات في المنزل.. فالماعز يأكل كما “الخنزير” فعلا.. لا تنزعج عزيزي المسلم.. فالمسيحيون أيضا أغلبهم لا يأكل الخنازير ولا نربيها.. كان زمان من 30 سنة وأكثر قريتين بجوارنا كانتا تشتهرا بتربية الخنازير وأتذكر شكل قطعان “الحلاليف” على أكوام القمامة والترع والخرارات في شوارعها، قرية “دير أبو حنس” شرق نيل ملوي.. وقبالتها من الناحية الأخرى غرب النيل قرية “البياضية” مسقط رأس الفنانة العظيم “سناء جميل”.. لكن اختفت الخنازير في هذه القرى وغيرها في مصر.. مع ظهور إنفلونزا الخنازير في العالم عام … ويومها أصدت الحكومة قرارها الغشيم بإعدام الخنازير في مصر.

ماعز
ماعز

بالعودة إلى المعيز.. لا يغرنك شكله “الكيوت” وظرافة لعبه وتنطيطه.. ولا يهمد ويستقر في مكان.. عايز ملعب يبرطع فيه.. الماعز يأكل أي شيء وكل شيء وطوال الوقت.. ورق جرايد.. كراتين.. خشب.. أكياس نايلون.. غبي لا يفرق حتى بما قد يضره أو لا.. وكثيرا ما تبتلع إحدى الماعز إبرة أو تلتف على أمعائها النايلون ونجلس طوال الليل والنهار بجوارها.. وتقوم أمي و “تشرملها” أي تحدث جرحا في أذنها لتستفيق.. وتعطيها شربة لكي تلفظ الماعز ما في جوفها.. وفي الغالب تموت نتيجة طفاستها وتهورها.. لذلك لا أحب تربية الماعز.. والخراف من الحيوانات التي يؤمن أبي وأمي أنها “مظورة” مثل “الأرانب” وتموت فجأة بلا سبب.

لكن الطيور عظيمة.. الطيور أيضا تأكل بواقي الطعام حتى لو فسدت.. طبيخ.. أرز.. عيش.. خضار.. كما أن الطيور نظيفة دائما.. ما عدا العاق “البِح” أو البط.. فهو يشبه الماعز في أكله.. ويخرج فضلات بمعدل “بزقة” كل عشر ثوان دون مبالغة.. عن نفسي أحب تربية الحمام.. تقول أمي دائما “الحمام حر” لا يشرب ماء غير نظيف.. ولا يأكل أكل فضلات البني آدمين.. ولا يخون زوجته مطلقا.

تربية البهائم
تربية البهائم

وبالطبع نربي الحمار والجاموس والخراف معروف فائدتها.. لكن في بيتنا لم يعد هناك مساحة أو صحة ووقت لتربية كل تلك الحيوانات.. لكن أبي لا زال يحافظ على عهده مع ما ر جرجس ويربي “جدي ماعز” لذبحه في عيد تذكار استشهاده في شهر أكتوبر.. يذهب ربعه والجلد للكنيسة، توزع منه للفقراء مع باقي ما يرسله الآخرون في قريتنا.. ونوزع نحن في المنزل الربع بمعرفتنا.. ونأكل في البيت باقي الجدي.. وشي لله يا مار جرجس.. وقبل أن ننسى طعم لحمه يدخل علينا في شهر نوفمبر تذكار رئيس الملائكة، الملاك ميخائيل.. قبل أن ننسى طعم البروتين والألبان طوال 43 يوما، هي مدة صوم عيد الميلاد.. أو العيد الصغير في 7 يناير.. لكن نعوضه بسمك “البلطي والقراميط والبياض طوال الصوم الذي لا يحرم أكل السمك فيه، ويا حظنا السعيد، فأفضل موسم للصيد في “بحر النيل”.

كان يوم ذبح الجدي في منزلنا احتفالات مصاحبة بالطبع، كما أي بيت مصري مسلم في يوم ذبح الأضحية في عيد الأضحى.. لكن من يربي “الجدي” في بيته.. يواصل متابعته لعدة أشهر والاهتمام به، وخصيه ليسمن أكثر.. والجديان الغبية التي تنطح بغشامة.. أذكر طعم “مخاصي” كل الجديان التي أكلتها في بيتنا.. وكنت سعيدا بذلك، ولم أشعر بالأسف طوال عمري إلا بعدما كبرت.. يا الله.. كم جديا أمسكته لأمي لتخصيه.. كم حفنة رماد ألقيتها بفخر داخل جرح خصية الجدي ليتوقف نزيف الدم بعد نزع أمي للبيضتين واخراجها بقوة.. لتربط على الخصيتين الفارغتين القماش.. كيف كنا نضحك ونحن صغار ونحن نسمع صرخات الجدي.. وكل ما يهمنا سوى طعم تلك البضات الوردية الطرية مقلية في السمنة مع البصل والثوم.

إقرأ أيضا
تامر أمين

هل كنا ساديين لهذه الدرجة؟ بصراحة أنا لا أشهر بذلك.. على الأقل الآن.. فهذه الطبيعة الانسانية التي تربينا عليها هنا.. تفاعلنا مع قوانين الطبيعة الأم.. كما فعل الأجداد وقبل أن تبلعنا الحداثة وما بعدها.. ونصير الآن من كثرة الشهور بالذنب واعتلال البدن “نباتيين” ولا نطيق رؤية الدم من كثرة ما شاهدناه.. لكن لا أبي ولا أمي يمكنهما فهم ذلك بالطبع.. ولهم كل الحق.. فما أقوله مجرد كلام متعلمين.

الكلاب
الكلاب

وافق أبي أيضا على تربية كلب في بيتنا.. ليس قبل أن نقنعه أنه مفيد للحراسة، خصوصا أن مساحة بيتنا كبيرة وتحتاج بالفعل لكلب بلدي يحرسه بالليل في قرية ينشط فيها الحرامية في ليالي الشتاء الرصروصة (الصقيع الشديد باللهجة المنياوية).. فليس أفضل من الكلب البلدي للتربية والاقتناء في قرية.. أذكر أنه عندما فشل الكلب ذات ليلة في حماية دجاج أمي من “الحصين” أو الثعلب.. وتسلل إلى العشة وأكل 7 فراخ دفعة واحدة .. سخر أبي من فكرة اقتناء كلب وقال “الأكل فيه حرام”.. رغم ذلك قاطع أبي جارتنا لسنوات طويلة وكرهها بشدة عندما قامت بتسميم هذا الكلب، الذي أنقذ ابنها في يوم من الأيام وهو صغير من لدغة عقرب محققة، عندما كان يلعب الطفل على عتبة بيتنا، ورأى الجميع الكلب يجري ناحية الطفل فجأة ويضرب عقربا كبيرا متجها بسرعة ناحية الطفل، يومها لدغ العقرب الكلب في يده الأمامية، وظل لمدة ثلاثة أيام مريضا بسبب هذا العمل البطولي بعد أن لدغه العقرب.

لكن هذه الكلبة “كانت أنثى صفراء اللون” ماتت مسمومة على يد من أحسنت إليهم.. لم ينس أبي تلك الفعلة لهذه المرأة طوال تلك السنوات.. ومن يومها أصبح أبي يحب الكلاب، وصار الآن في بيتنا ثلاثة كلاب دفعة واحدة.. تصل إلى عشرة أو أكثر، عندما تلد الأنثى فيهم.. لكننا لم ننسى “الكلبة الصفراء” أبدا.. أحب مراقبة أبي وهو ينظر إلى الجراء الصغيرة وهي تلعب مع باقي القطيع أو معنا.. ويتعجب من حنانها، لتقول له أمي بعد تذكر بطولة الراحلة ” هو خاين إلا ابن المرة”.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
6
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان