همتك نعدل الكفة
52   مشاهدة  

سيرة بيرلو (7).. توتي بطريقتي!

بيرلو


أحيانا تضطر في حياتك إلى تسديد ركلة ترجيح؛ تهدر الفرص تباعا، برعونة، سوء توفيق، كسل، عدم تقدير دقيق للموقف، أو حتى أنك لست قويا بما يكفي، فتعطيك الحياة فرصة أخيرة، اغتنمها أو ابك وحدك في الزاوية، نهنه كما شئت، لا تكلمني عن الضغوط قبل التسديد، لا تحدثني عن الظروف التي ضاعت خلالها الفرص، ظالما أو مظلوما، النتيجة واحدة.. فشلت ولك فرصة أخيرة. أتساءل: هل الفرصة الأخيرة منحة أم عقاب؟.. للعقل إجابة وللقلب إجابة أخرى.

لا أعرف إن كنت اخترت أن أكون رجل الفرص الأخيرة أم أن القدر اختار لي هذا، لكنها ليست ميزة بأي حال، صحيح أن الهدف +90 فرحته عارمة وخالدة، لكنك لو سألت عماد متعب نفسه لربما أجابك بأنه كان يفضل إنهاء المباريات مبكرا، لا أحد يحب الضغوط. أن تعيش معظم الوقت في صراع مع الفرص الضائعة رغم ما تبذله في معظم الأحيان من جهد للظفر بها؛ أمر قاس على القلب والعقل.

في 2006 وسط 100 ألف متفرج على استاد القاهرة الدولي، اختار أحمد أحسن أن يسدد ركلة الترجيح الأولى أمام كوت ديفوار في نهائي كأس الأمم، قبلها بدقائق كان الصقر المصري أهدر ركلة جزاء. تحدث قائد المنتخب المصري إلى نفسه، وحسم أمره بأنه قائد الفريق، وإن تهرب القائد من المسئولية فماذا عن بقية اللاعبين؟. طلب أحمد حسن تسديد الركلة الأولى وسددها ونجح.

الركلة الأخيرة كانت من نصيب محمد أبو تريكة، الموهوب الذي لحق بركب النجوم في وقت متأخر نسبيا (انتقل أبو تريكة إلى الأهلي في عمر 26 عاما) وكانت هذه بطولته الأولى مع منتخب مصر. ذهب أبو تريكة إلى الكرة.. وضعها وسدد في المرمى، هكذا ببساطة. يظهر شريط المباراة أن تريكة لم يكن سيحتفل لولا أن رأى عصام الحضري يركض نحوه بهستيريا فانتبه إلى أننا فزنا بالمباراة والبطولة. لم يكن أبو تريكة يعلم أنها الركلة الأخيرة!.. نفحة إلهية حجبت عن عقله تلك الحقيقة كي لا يشعر بضغط كبير. أتساءل مجددا: هل يجب دائما أن تكون أحمد حسن؟.. وكم منا عند الله كـ “أبو تريكة”؟!

YouTube player

تذكرت بيرلو حين قال: “إما أن تكون توتي أو أن تكون غبيا”.

أنا شايل هموم الكون فوق دراعاتي

ركضت العديد من الكيلومترات خلال مسيرتي، لكن أكثر ما أرهقني كانت تلك المسافة التي قطعتها ماشيا بين دائرة منتصف الملعب الأولمبي في برلين ومنطقة الجزاء.

في نهائي كأس العالم 2006 كانت هناك لحظة خاصة جدا. رأيت مارشيلو ليبي يسير متجها إليّ بعد نهاية الوقت الإضافي، الأجراس تقرع في أذني على وقع أقدامه. وصل ليبي إليّ وهمس في أذني: “أنت ستبدأ”. دوي كلماته حجب قرع الأجراس. كلمات قد ترسم صورة لك عن أي لاعب طوال حياته، ليس ضروريا أن تعتبر كلمات ليبي خبرا سعيدا، لكنها بالتأكيد تعني أنني الأفضل، سجلت أو أضعت: أنا الأفضل. لكن إذا أضعت سأكون المذنب الأول. عصفت الفوضى بعقلي؛ هل أسدد إلى اليمين؟ أم إلى اليد اليسرى الضعيفة للحارس؟.. لا يجب أن أسدد في زاوية لكي أضمن دخول الكرة، ماذا لو أطحت بها تجاه الجماهير؟ سيغفر الرب للجميع إلا باجيو وبيرلو!.

تشبه ملاعب كرة القدم في تصميمها المسرح الروماني القديم، نمثل نحن ملهاة فوق مسرح أخضر يحيط به الجماهير. لم أكن أعرف ماذا أخترع، الفصل الأسوأ والأكثر درامية الذي نجسده هو طقوس ركلات الترجيح، حيث يجلس اللاعبون في دائرة المنتصف، قبل أن يقطع كل مختار 50 مترا وحيدا قبل تنفيذ ركلته ومواجهة مصيره، خطوات في عالم الخوف، كرجل مدان يذهب مضطرا إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام. مبالغة؟ ربما، لكن لا تنكر أن التشابه بين الحالتين موجود بالتأكيد.

كان دوري لتنفيذ ركلة الترجيح، قررت بغريزتي: “سأسدد في الوسط، وسأرفع الكرة قليلا كي لا يتصدى لها بارتيز بقدميه”.. 50 مترا كل خطوة فيها تعج بالمشاعر، اخترت السير بطيئا، احتاج لأطول وقت ممكن قبل التسديد، العشب تحت قدماي لا يشبه بقية الملاعب، كان أكثر ليونة، أنظر لحذائي الذي طبعت عليه أسماء أبنائي، ربما لهذا كنت أمشي بمنتهى الرقة. اقتربت من المرمى ولم أنظر لبارتيز لأن فلاشات الكاميرات كانت تسطع في عيني وشعرت أني لو نظرت تجاهها لربما أصابني العمى. وقفت، حملت الكرة، كانت ثقيلة بحجم الضغوط التي تسحقني. لم أبحث عن بوفون وهو أيضا لم يبحث عني، كل منا لديه مشاكله الخاصة الآن.. نظرة منه أو إيماءة أو حتى نصيحة لم تكن لتجدي في هذه اللحظات، أنا أفكر فيما سأفعله وهو ينظر إلى السماء طلبا للمساعدة، لأنه إذا كان الرب موجودا، فهو بالتأكيد ليس فرنسيا.

YouTube player

أن تكون إيطاليا فهو شرف لا يقدر بثمن، لم أؤمن يوما بخطابات الساسة ولا كتب التاريخ التي درستها – ربما لأنها ظلت مغلقة طيلة الوقت. لكن رغم ذلك كنت أعرف أن إيطاليا بلد فريد، تحبها فقط لأنها إيطاليا. أفكار كثيرة تداخلت في عقلي في تلك اللحظة، لكني سددت أخيرا وسجلت. وحتى لو لم أنجح في التسجيل، فذلك الدرس كان ليبقى؛ كان رائعا أن تدرك أن هناك الملايين الذين شعروا بنفس الفرحة معك، بنفس الطريقة وفي نفس اللحظة ولنفس السبب، في مدن مختلفة كانوا فيها قبل دقيقة يتخاصمون ويبحثون عن أي نقطة التقاء. ركلة الترجيح تلك كانت بمثابة تعريف لي. ربما لن تصدقوا لكني أعتبر ضربة الجزاء ضد فرنسا في 2006 هي عنواني وبطاقة تعريفي، ربما أكثر من تلك الركلة العبقرية التي سددتها ضد إنجلترا في يورو 2012. رغم ذلك كان الهدف هو نفسه دائما: اختيار الحل الأفضل للتقليل من احتمالات الخطأ في تنفيذ الركلة.

إقرأ أيضا
الدخلة البلدي
بيرلو ينفذ ركلة الجزاء أمام جو هارت
بيرلو ينفذ ركلة الجزاء أمام جو هارت

كن توتي

لكي تفهموا: في 2012 لم أفعل مثلما فعل توتي في يورو 2000 ضد هولندا حين همس لمالديني ودي بياجيو قبل تنفيذ ركلته: “سأنفذ الملعقة”.. لا، لم أقرر من البداية، بل قررت في النهاية بعدما رأيت جو هارت يتحرك كثيرا على خط المرمى، ركضت بسرعة دون أن أوضح أين سأسدد، وتحرك هو باستعجال، في تلك اللحظة قررت ونفذت الملعقة. كانت لحظة ارتجال بنسبة 100% ولم تكن قرارا مع سبق الإصرار. كانت تلك هي الطريقة الوحيدة كما رأيت لضمان التسجيل. لم أفكر بالاستفزاز فهي ليست طريقتي. بعض الخبراء حاولوا إيجاد معان عميقة من تلك الحركة، تحدثوا عن رغبة الثأر، لكنها ليست الحقيقة. نحن لم نتدرب أصلا بسبب كثرة التنقل بين بولندا وأوكرانيا، هل كنا سنجد الوقت للتفكير والتخطيط؟!

إما أن تكون توتي أو أن تكون غبيا!.. نفذت تلك الركلة بتلك الطريقة لأنها كانت الأضمن، كانت نتاج لحظة حسابية بحتة، ربما لن يعجب البعض تفسيري للأمر، ذلك لأن الحقيقة غالب الأمر تكون أقل رومانسية. صحيح أنها كانت لحظة رائعة لقلب النتيجة على إنجلترا والتأهل لنصف النهائي، لكن الحقيقة هي أن طريقة التنفيذ كانت وليدة اللحظة. أتذكر رد فعل الجميع، خاصة زملائي المذهولين، لكن السؤال الذي أتذكره بعد هذه اللحظة: “أندريا.. هل أنت غبي؟”.. كانوا مذهولين إلا أنا، كنت الوحيد الذي يعرف لماذا فعلت ذلك ولأي عدد من الناس.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان