همتك نعدل الكفة
33   مشاهدة  

سيرة بيرلو (8).. الغرفة 205!

بيرلو


انتهت مرحلة ماركو تارديللي المؤسفة مع منتخب مصر بفقدان الأمل في التأهل لنهائيات كأس العالم 2006، لتبدأ الكرة المصرية فصلا ورديا مع المعلم حسن شحاتة الذي جاء انتدابه لتدريب منتخب مصر في البداية كإجراء مؤقت قبل أن يفرض الأسطورة الكبير كلمته على الجميع. بتحقيق نتائج ودية رائعة جاء أبرزها الفوز على بلجيكا برباعية نظيفة، حولت عقده من مؤقت إلى نهائي.

في 8 أكتوبر 2005 كانت الجولة الأخيرة من التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2006 .. المنتخب المصري خارج حسابات الصعود والصراع على أشده بين الكاميرون وكوت ديفوار لانتزاع البطاقة المؤهلة لمونديال ألمانيا.. الكاميرون تستضيف مصر ويكفيها الفوز لضمان التأهل، فيما يحتاج الفيل الإيفواري للفوز على السودان في عقر داره وانتظار هدية من المصريين.

المنتخب الإيفواري انفجر في الخرطوم وفاز على السودان بثلاثة أهداف لهدف، لكن على بعد أكثر من 2600 كيلومتر كانت الأجواء في ياوندي أكثر التهابا. المنتخب المصري رغم خروجه من حسابات الصعود يلعب بشرف كبير، يتعادل مع الكاميرون الرهيب بهدف لمثله، قبل أن يحتسب حكم المباراة ركلة جزاء لأصحاب الأرض في الدقيقة الأخيرة من عمر اللقاء. للحظات توقفت قلوب رفاق دروجبا، حلم أمة قد ينتهي بصافرة حكم!.. القدر كان رحيما بالإيفواريين وأهدر جان بيير وومي الركلة، ليتأهل كوت ديفوار لكأس العالم لأول مرة في تاريخه.. لكن هذه ليست القصة!.

ديديه دروجبا
ديديه دروجبا

في سبتمبر 2002 اندلعت حرب أهلية طاحنة في كوت ديفوار، تمزقت البلاد وقسمت إلى مناطق خاضعة للسيطرة الحكومية وأخرى يحكمها المتمردون.. كوت ديفوار كانت تعاني من حرب إثنية اندلعت بعد وفاة الرئيس فيليكس أوفوي بوانيني الذي حكم البلاد منذ حصولها على الاستقلال لمدة 33 عاما، وكان الرجل القوي قادرا على السيطرة على الشعب الإيفواري رغم التغير الديموغرافي الذي حدث إبان فترة حكمه بارتفاع نسبة المسلمين مقابل المسيحين في البلاد نتيجة الهجرة إلى كوت ديفوار الذي ينتعش اقتصاديا. بعد وفاة أوفوي واجه الإيفواريون مسألة الديمقراطية لأول مرة وكان عليهم أن يذهبوا لصناديق الاقتراع لاختيار رئيس جديد، لكن الحرب الأهلية اجتاحت البلاد.

بعد أن اطمأن دروجبا ورفاقه إلى التأهل للمونديال وفي غرفة خلع الملابس قبل مغادرة ملعب المباراة، سجل قائد الفريق ديديه دروجبا رسالة قال فيها:

“يا رجال ونساء ساحل العاج، في الشمال والجنوب والوسط والغرب، أثبتنا اليوم أن بإمكان العاجيين أن يتعايشوا في سبيل هدف مشترك ألا وهو التأهل لكأس العالم.. وعدناكم بأن الاحتفالات ستوحد الشعب. واليوم نلتمس منكم: يجب ألا ينحدر بلدنا الأفريقي الغني إلى الحرب. أرجوكم ألقوا أسلحتكم وأجروا انتخابات”.

انتشر تسجيل كلمة دروجبا على نطاق واسع في كوت ديفوار، وخلال أسابيع انقلبت الأوضاع تماما، ووقع جانبا الصراع اتفاق هدنة لوقف إطلاق النار، ما ساهم لاحقا في إنهاء الحرب. نجحت كرة القدم فيما فشل فيه الجيش الفرنسي وقوات حفظ السلام!.

بيرلو كذلك كان يعي قيمة كرة القدم وقدرتها على توحيد البشر.

الأزرق فوق الجميع

ليست صدفة أن تكون المشاعر جياشة عندما ترتدي قميص الأزوري، الأزرق هو لون السماء، والسماء هي كل شيء، حتى وإن كستها الغيوم فأنت تعلم أنها هناك.

كوني جزء من المنتخب الإيطالي يجعلني ألمس السماء، شعور أقوى من ممارسة الجنس؛ إذ يدوم لفترة أطول.. إذا لم تشعر بذلك فهي مشكلتك. كاسانو يقول إنه مارس الجنس مع 700 امرأة، لكنه في مرحلة ما لم يعد جزءا من المنتخب الإيطالي، هل سيكون سعيدا بشكل دائم؟.. لا أعتقد ذلك، فهذا النوع الآخر من الجلد يعطيك نظرة مختلفة للعالم، يجعلك أفضل ويرفعك لمستويات أعظم.

كنت أفكر في اعتزال اللعب دوليا عقب كأس العالم 2014، حينها سأكون بعمر الخامسة والثلاثين، وقت مناسب لترك الفرصة لغيري، لكني إلى الآن على الأقل لازلت أشعر أنني قادر على خدمة بلادي، وطالما كنت قادرا فصاحب قرار ابتعادي عن الأزوري هو برانديلي وحده. أرى أنه على أي شخص ألا يترك المنتخب، يجب أن يكون الابتعاد بقرار المدرب فقط، هذا يجعل الأمور أقل تعقيدا وألطف بكثير.

بيرلو بقميص منتخب إيطاليا
بيرلو بقميص منتخب إيطاليا

لم يسبق لأي ناد لعبت له أن طلب مني عدم الانضمام إلى المنتخب، لو فعلوا ذلك لاستقبلوا مني ردود فعل غير لطيفة بالمرة، إيطاليا فوق الجميع، أهم من ميلان ويوفي وإنتر. بشكل واضح أستاء كثيرا عندما أكون في الكوفرشيانو وأرى أندية تفكر في مصالحها وتضع الأولوية لالتزاماتها ولا تهتم لأمر إيطاليا إلى في المناسبات الكبيرة.. بعض اللاعبين يأتون للمنتخب وهم يخشون الإصابة كي لا يتعرضوا لعقوبات أو مضايقات في أنديتهم، على الرغم من ذلك لم ولن أوفر نفسي لأي شيء حينما ألعب مع المنتخب.

بدأت رحلتي مع قميص إيطاليا بعمر 15 عاما، وكالعادة شهدت صعوبات البدايات، كنت أصغر سنا من الحد الأدنى المسموح للمشاركة مع المنتخب، رغم ذلك أخذني سيرجيو فاتا معه، كان التزوير حلا رائجا تلك الأيام لكني رفضته. كنت سعيدا لأنني سأذهب مع المنتخب وأتغيب عن المدرسة لثلاثة أيام. فاتني العديد من الدروس لكني استرددتها لاحقا خلال مسيرتي: تجوال العالم مع إيطاليا (دروس جغرافيا).. الفوز (تاريخ).. الركض (تمارين بدنية).. معرفة جوارديولا (فلسفة وفن تاريخي كتالوني).

أعتبر نفسي محظوظا، فالقميص الذي ارتديته عملة نادرة.. أتذكر بعض الأشياء البسيطة عن مونديال 1986 لكني أتذكر كل شيء عن مونديال 1990 خاصة أغنية “الصيف الإيطالي” التي غناها إدواردو بيناتو وجيانا نانيني.. كل لاعبي جيلي يحفظون تلك الأغنية وكنا نحتفظ بها على الأيبود في ألمانيا 2006 ويورو 2012.

الغرفة 205

في معسكرات المنتخب، تنشأ صداقات حقيقية، نقية. الغرفة 205 في الكوفرشيانو بسريرين وحمام واحد وشرفة هي خزانة أسرار الفريق، أولا كنت أتشاركها مع نيستا ثم لاحقا مع دي روسي، النقيضين من العالم الروماني، نيستا من لاتسيو ودي روسي من روما. ألمانيا اتحدت بعد بعض المشاكل، ونحن الثلاثة قررنا أن نتحد وكفى.

منتخب إيطاليا في كأس العالم 2006
منتخب إيطاليا في كأس العالم 2006

نيستا في 2006 تعرض للإصابة ضد التشيك، ذرف دموعا لا تحصى، كان بنصف وعيه، متوترا، لا يتحدث إلا معي أنا ودي روسي. كان ليبي يسمح لنا أحيانا بالخروج من المعسكر، فنصطحب نيستا للعشاء ونحاول بكل ما نملك أن نبعده عن التفكير في الإصابة، لكنه رغم ذلك كان يردد دائما: ” لا أشعر أنني جزء من الفريق.. سألحق الأذى بنفسي دائما”.

في إحدى المرات كنا عائدين من دوسلدورف بالسيارة، المدينة الأقرب لمعسكرنا في دوسبورج.. نسيتا هو من يقود ونشاركه أنا ودي روسي وبارزالي السيارة.. فجأة صرخت أنا ودي روسي:

– نسيتا.. أنت تذهب إلى الاتجاه الخاطئ.. أخرج من هنا بسرعة.. إلى أوسفارت!

= لكن!

– لكن ماذا؟.. أخرج بسرعة نيستا.. أخرج

= هل أنتم متأكدون؟

– بالتأكيد.. أخرج بسرعة كي لا نتأخر ونضطر لدفع الغرامة.

في خمس ثوان تحول من سرعة 60 ميلا في الساعة إلى صفر!.. ضغط على المكابح بقوة ثم انعطف بتهور وأتبع الطريق الذي أرشدناه إليه.. سرنا قليلا قبل أن ينتهي بنا المطاف في طريق مليء بالمزارع مثل تلك التي شاهدتها في فيلم Gran Rosso .. أسوأ فيلم تابعته في حياتي.. ضعنا في الطريق.. كنت أضحك أنا ودي روسي بينما كان نيستا قلقا:

= ما هو الشيء المضحك في الموضوع؟.. كيف سنعود؟

– ساندرينو..

= اللعنة.. كل يوم أقرأ في الصحف أني فقدت هدوئي.. الآن سيكتبون أنني أول لاعب إيطالي يفقد في تاريخ كأس العالم.

إقرأ أيضا
مستعمرة العاهات في العتبة

– ساندرينو

= بحق الجحيم.. أين نحن الآن؟

– ساندرينو

= هل بإمكانكم التوقف عن الضحك؟.. ما الذي تريدونه؟

– ساندرينو.. أوسفارت في اللغة الألمانية تعني: (مخرج).

لم أسمع أي شخص يلعن ويسب أكثر من نسيتا في تلك الليلة. لو لم نعد به لربما أصيب في يده أيضا، لكن بكل الأحوال خطتنا نجحت؛ لبعض الوقت كان نيستا يفكر في شيء آخر غير إصابته، حظى ببعض الوقت المسلي.

عمل نسيتا جيدا وتماسك حتى ما قبل مباراة نصف النهائي أمام ألمانيا، أجرى بعض الفحوصات على كتفه وتأكد من أنها شفيت، وبدى مستعدا للمشاركة، بعدها بقليل أثناء تدريبات الجري، رفع نيستا ساقه وشعر بشيء واضح.. تعرض لتمدد، شعرنا أنه سيموت وحالنا لم يكن أفضل بكثير، انتهى الأمل كليا. أمام ليبي وبقية الفريق حافظ نيستا على هدوئه، لكن حين عدنا إلى الغرفة بكى كما لم يبك من قبل، عرفت أنه اجتهد فوق طاقته كي لا ينهار أمام الجميع، لكن حين يضيع الحلم لا يبقى لك سوى أن تحكم قبضتك لتدفع العواقب.. عواقب نفسية أكثر منها بدنية.

دي روسي أيضا لديه مأساة!

حالة دي روسي في تلك البطولة أيضا هي مأساة أخرى، ضرب ماكبرايد لاعب المنتخب الأمريكي بالكوع وتعرض للإيقاف 4 مباريات. ما لا يعرفه أحد أن دي روسي تلقى وابلا من الرسائل التي حملت تهديدات بالقتل له ولعائلته!، فضلا عن الشتائم التي وجهت له ولوالديه وهم أشخاص من ذهب. عاش لفترة طويلة في وضع سيء، لا يريد التحدث إلى أحد. دي روسي ذو قلب كبير، لذلك كانت معاناته فائقة.

بيرلو ودي روسي
بيرلو ودي روسي

وسط حالته السيئة لم ينسى دي روسي أصدقاءه، كان يأتي ليهمس لنا فجأة: “أندريا.. ساندرو.. كيف حالكم؟”.. سؤال كان يجعلنا ندرك جيدا أنه في طريقه إلى الجنون وأن حالته تزداد سوءا. الإيقاف لأربع مباريات في كأس العالم يشبه الحكم بالسجن المؤبد. لم نكن جيدين في تعاملنا مع دي روسي في البداية، كنا نلومه: ” ماذا فعلت؟ هل أنت مجنون؟” قبل أن ندرك أن ما نفعله سيجعلنا نخسر واحدا من أهم أفرادنا، لذا بدأنا فورا في الاهتمام به.. هذا دور الأصدقاء.. نحب بعضنا البعض بغض النظر عن أي شيء.

رسائل السب والتهديد لم تتوقف، لكن دي روسي عاد وسدد إحدى ركلات الترجيح في النهائي ضد فرنسا، طريقة جميلة للرد على هؤلاء الأغبياء عديمي الكرامة – يجب أن أقول إنهم جهلاء أيضا بالنظر لكم الأخطاء الإملائية التي احتوتها الرسائل.

ساعدت دي روسي بتلقائية والآن حان دوره كي يرد الجميل، كن قريبا مني حتى في الملعب، كنت أطلب منه ذلك، كنت أقول له إني سأترك المنتخب بعد 2014 لذلك أريد أن ألعب النهائي.. من المؤسف أن نيستا لن يكون معنا لأنه خرج مع المخرج.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان