همتك نعدل الكفة
81   مشاهدة  

شادي عبدالسلام مخرجًا.. الصيت ولا الغنى

شادي عبدالسلام


في النصف الثاني من بدايات الألفية الثانية كان لقائي الثاني مع فيلم المومياء “يوم تحصى السنين” لمهندس الديكور -المخرج حينها- شادي عبدالسلام، ولكن هذه المرة كان اللقاء مختلفًا، في المرة الأولى كنت مراهقًا صادف الفيلم على شاشة إحدى القنوات فبدافع الفراغ شاهدته، كنت أسمع عنه على أنه تحفة سينمائية، ولكن في المشاهدة الأولى لم أراه كذلك وقتها قلت لنفسي “غالبًا أنا اللي حمار ومش مستطعم الفيلم”.

إنهم يقتلون الدراما.. أليس كذلك!

  • سنوات طويلة منذ انتهيت من دراسة النقد أحجمت عن كتابة هذا المقال، فقط لأتجنب اتهامات بالحمورية قد لا تنتهي، من متعصبي بعض القوالب والأفكار السينمائية، التي ورثوها عن جيل من النقاد الكبار مارسوا النقد الأيدولوجي قبل النقد الفني، فأعطوا – في رأيي- مكانة كبيرة لعدد من الأفلام لا تستحقها فقط لأنها تتوافق مع فكرهم بعيدًا عن الجودة الفنية، المومياء لشادي عبدالسلام، هو أحد أبرز تلك الأفلام –

الدراما هي الحكم والحاكم والآمر الناهي في السينما، فما لا يخدمها ولا يسير في إطارها هو عالة على الشريط السينمائي، ووظيفة المخرج هو إدارة وتطويع كافة الوسائل الفنية من الممثلين إلى زوايا التصوير وحركات الكاميرا والإضاءة والمونتاج والديكور والملابس وحتى الحيوانات والنباتات والرمال إذا لزم الأمر لخدمة الدراما، وبشكل فني وجمالي بالتأكيد، لذلك فالهدف في الأساس هو الدراما ثم تأتي الجماليات.

شادي عبدالسلام

ولعل أحد أبرز المخرجين الذين كانوا يقتلون جماليات الكادر السينمائي في سبيل الدراما كان عاطف الطيب، فالمتأمل لجماليات الكادر والصورة في سينما عاطف الطيب سيعاني الأمرين، فبشهادة مساعده الأبرز المخرج أمالي بهنسي، كان الطيب يضبط الكادرات الخاصة به بشكل جمالي في البداية قبل أن يكتشف أنها ليست في خدمة ما تريده الدراما أو ما يريد أن يصوره من دراما فيقوم بهدمها وبدائها مرة أخرى بدون جماليات تقريبًا.

وعلى العكس تمامًا يأتي شادي عبد السلام المخرج لا مهندس الديكور، فشتان الفارق بين الأثنان، فلا دراما في أي كادر من كادرات شادي عبدالسلام في فيلميه شكاوى الفلاح الفصيح “الفيلم القصير” والمومياء يوم تحصى السنين “الفيلم” الطويل، فكلاهما الصورة بعيدة كل البعد عن الدراما الموجودة في السيناريو أو حتى عن الحدث الذي تقدمه الصورة.

شكاوى الفلاح الفصيح.. النحت من الأحجار

برع قدماء المصريون في نحت الأحجار والنقش على الجدران، وهذا ما فعله شادي عبدالسلام حرفيًا في فيلم شكاوي الفلاح الفصيح، نقل النحت والنقش على شاشة السينما، ربما ينبهر البعض بهذا النقل المتقن لما نراه من نقوش على المعابد الفرعونية، ولكن السينما لا تعتمد على النقل السينما في الأفلام الدرامية على وجه الخصوص تعتمد على الحياة وهذا ما لم يفعله شادي عبدالسلام مع فلاحه الفصيح.

شادي عبدالسلام

شادي عبدالسلام تفنن تمامًا في تفريغ الفيلم وكادراته من الحياة، أولا لا يوجد حياة في الفيلم كل ما في الأمر خلفيات تختلف من صحراء إلى واحة، حتى الجنود والزوجة والأطفال والأم والكهنة، جميعهم يتحركون بموات شديد، حركة مقيدة كأنهم رسومات ثنائية الأبعاد على جدران صماء، لن ترى في شكاوى الفلاح الفصيح مشهد لمنزل او قصر أو شارع أو معبد يعج بالحياة، وهذا ببساطة منافي لزمن ومكان الحدث الذي تدور فيه الدراما، فبدى كأن الأحداث تدور داخل فقاعة مغلقة داخل زمنها وعالمها.

شادي عبدالسلام

سترى أيضًا اختلاف المرئي عن المنطوق وهي إحدى كوارث الدراما، فحينما يصدح الفلاح الفصيح بمونولوج قوي يتحدث فيه مع الحاكم عن كونه يظلم ويحذره من غضب الإله، سترى الفلاح جاثيًا على ركبتيه، في وضع متذلل راجي، بشكل مخالف تمًاما لما يقوله قولًا ومعنى، وهي مشكلة وآفة سينمائية تأكل دراما شادي عبدالسلام وتقتل ما يقدمه.

المومياء.. يوم أن تحصى الكادرات

التجربة الروائية الطويلة الأولى -وأحمد الله أنها الأخيرة- لشادي عبدالسلام كمخرج وسيناريست، لها قصة طويلة معي، أول مرة شاهدت المومياء كنت مراهقًا وجدت أن الفيلم ثقيلًا للغاية، ليس ممتعًا به الكثير من النواقص، فأرجعت هذا لحداثة سني وعدم خبرتي في السينما من الأساس ومشاهداتي المحدودة والمقصورة على ما تقدمه شاشات القنوات من أفلام، وما تيسر من شرائط الفيديو.

حينما دخلت عصر الإنترنت كانت تجربتي الثانية، كانت حصيلة مشاهدتي قد زادت وخرجت من عالم الأفلام التجارية لتجارب سينمائية مختلفة ومشاهدة أغلب ما تم تصنيفه أنه من روائع السينما، وقتها قابلت أفلامًا من مختلف أنحاء العالم ولعديد من المخرجين الكبار، وكنت قد بدأت في دراسة السينما والقراءة فيها، لتكون النتيجة الفيلم لا يستحق كل هذا الاحتفاء فبه الكثير من المشكلات، وقفت على بعضها ولم أرى الأخرى، ومرة أخرى أرجعت الأمر لقلة خبراتي وربما عدم نضجي.

شادي عبدالسلام

المقابلة الثالثة كانت الحاسمة، كنت قد قاربت على إنهاء دراسة النقد السينمائي بشكل متخصص، وتمرست في فن تشريح الكادر السينمائي، وهو فن تفكيك الكادر السينمائي ومعرفة أثر ومعنى كل عنصر فيه وكيف يخدم الدراما، وهنا قابلت المومياء للمرة الثالثة لأجهر برأيي على مسمع من أساتذتي وزملائي، وفي قلب المكان الذي صنف المومياء يومًا على كونه أفضل فيلم مصري، ألقت قنبلة وقولت “في رأيي أن المومياء فيلم رديء ومبالغ في تقديره بشكل كبير”.

المومياء يحمل الكثير من الكوارث التي لا يقع فيها مخرج مبتدئ، بل هو ذهب إلى ما يمكن تسميته الحذلقة الفنية دون داعي، فلا كادر واحد في شريط الفيلم كله يخدم الدراما بأي شكل من الأشكال.

  • لن أنكر أبدًا أن أي كادر من فيلم المومياء هو لوحة تشكيلة رائعة، قف في أي لحظة في الفيلم وقم بأخذ اللقطة كصورة واحتفظ بها ستجد أنك أمام كادر تشكيلي رائع، ولكن شتان الفارق بين الكادر التشكيلي والكادر الدرامي، وهذا الأخير هو عصب أي سينما-

في المومياء وكعادة شادي عبدالسلام غلب فيه الجانب الجمالي على الجانب الدرامي فجاء الفيلم شديد الترهل بلا إيقاع، ثقيًلا ومملًا، جاءت كادرات الفيلم منفصلة كليًا عن الدراما المكتوبة داخله والتي تم لي عنقها هي الأخرى لتجاري جماليات لا طائل منها، جاء الفيلم ثنائي الأبعاد مشاهد لأناس يتحركون كأنهم نقوش على جدران، بلا حياة أو روح أو رابط بينهم وبين الدراما.

إقرأ أيضا
الكتاتيب اليهودية في مصر

في فيلم عرق البلح للمخرج رضوان الكاشف، تستخدم اللغة العربية الفصحى في بداية الفيلم لبيان حالة الاختلاف بين الوافد وبين من بقيّ في النجع، اللغة الفصحى هنا هي لغة وسيطة تجمع بين غريبين عن بعضهما البعض، ولكن في فيلم المومياء ما هو الداعي لاستخدام اللغة الفصحى في حوار الفيلم؟ لا هي لغة زمن الأحداث، ولا هي لغة يتحدثها من يستقبل الفيلم، بل هي لغة تزيد من غربة وانفصال الفيلم عن أحداثه، وتزيد من الحاجز بين الفيلم والجمهور بلا داعي سوى الفذلكة السينمائية، أو أن الفيلم في الأساس غير مقدم للجمهور المصري.

شادي عبدالسلام

فحوار المومياء كان أشبه بالحوار المترجم، لا كحوار أصيل يمكن أن تتحدث به الشخصيات الدرامية في عالمها وزمنها، مما يزيد انفصال الصورة عن الدراما، وعلى نفس الجانب سنرى أن شادي عبدالسلام يوظف مقاسات الكادر وزواياه فقط لخدمة جماليات الصورة ولتذهب الدراما إلى الجحيم، وهو ما دأب على فعله في كل الأفلام التي صورها بما في ذلك فيلم التسجيلي “جيوش الشمس” عن حرب أكتوبر.

شادي عبدالسلام لم يقدم أي أعمال أخرى كمخرج، منذ عام 1973 وحتى وفاته في عام 1986، وربما إن قدم غيرها كان قد تخلص من كوارثه السينمائية وقدم أفلام أفضل دراميًا، أو حقق التوازن الطبيعي بين جماليات الصورة والدراما، هذا التوازن الذي ستراه عند غالبية المخرجين، وهو الأمر العادي والطبيعي والمطلوب عند أي مخرج، ولكنه رحل ليترك لنا مومياء بلا روح وفصاحة بلا دراما، مازال البعض يراها الأفضل دون أن يفند أسباب كونها الأفضل، مثلما فندت بعضًا من أسباب كونها الأسوأ.

 

 

 

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان