همتك نعدل الكفة
1٬460   مشاهدة  

الشاعر البائس عبد الحميد الديب الذي جنى على نفسه وعلى أهله

عبد الحميد الديب


كنت مفلسًا حينما التقيت بالشاعر عبد الحميد الديب، وفي حالة من الإعياء والتعب الشديدين، فقد كان جائعًا لم يتناول الغداء، وكانت الساعة قد اقتربت على السادسة مساءً، ولما بيننا من صداقة ومودة كاشفني بدخيلة أمره، فاستعرضت في مخيلتي أسماء الأصدقاء الذين لا يتهجمون لي في مثل هذه الأحوال علّني أجد لديهم “قروشًا” أهيئ بها للجائع الصديق طعاما وقهوة ولفائف تبغ”.

يروي الكاتب عبد الرحمن عثمان تفاصيل لقاء جمعه بصديقه الشاعر البائس عبد الحميد الديب.

ويكمل، أن ذاكرته توصلت إلى صديقه عبد الحميد قطامش، فصحب “الديب” إلى مسكن “قطامش” ولكنهم وجدوا “قطامش” في سفر إلى بلدته لأمر عارض، وحين علم “الديب” تجهم وجهه قائلًا:”هذا نذير سوء”.

عبد الحميد الديب

توجها بعدها إلى صديق آخر، كان “عثمان” يقترض منه عندما يضيق الحال، لكن عبد الحميد الديب قال في جدية وصرامة:” إن قلبي يحدثني أننا لن نجد صديقك هذا بل ربما سنحد داره قد انتقلت من الحي الذي يقيم فيه إلى حي آخر من أحياء القاهرة”.

طرقوا الباب فخرج من يسكن بجوار صديقهم ليقول لهم :” إن صديقهم قد أصيب في حادث منذ ساعة وقد حمل إلى المستشفى”، عندها تلفت “عثمان” إلى “الديب” ليجد يبكي، حزين النفس وهو يقول:”ألم أقل لك يا صديقي إنني ملعون في السماوات والأرض، فلقد جنى حظي على زميلك المسكين فليته ما دار بخلدك حين رميت تفريج كربتي”.

كان أصدقاء الشاعر عبد الحميد الديب يتلهفون لسماع شعره، لكنهم تعمدوا أن يجاهلوه وهو في الطريق تحت أبصارهم بعدًا منهم عن الشبهات، وتجنبًا لما قد تقوله الألسنة إن هم حيوه أو وقفوا معه قليلًا.

وكان فزع “الديب” الأكبر مما يُكتب في الصحف من وجوب التفكير في مخرج للشاعر من تلك المحنة التي أدخل نفسه فيها، والاهتداء إلى وسيلة لإنقاذه من تعاطي “الكوكايين” وإبعاده وبالسجن عن حي الزهار، وكان “الديب” يخاف من القانون، ويخشى من رؤية الشرطي في الطريق العام، فراح ينكر بكل الطريق أنه يتعاطى المخدر، وبات يشكو إلى زميلته في المصيبة وكانت تسمى “فاطمة” وكان يقنع نفسه أنه يحبها، رغم أن عاطفته ناحيتها كانت لون من ألوان التعاطف الذي ولده انهيار نفسيهما بالمخدر.

عبد الحميد الديب

كان عبد الحميد إذا جلس مع الأدباء في حي الحسين، ينظر إليهم فيجد بعضهم أغنياء، فيعز عليه ألا تكون له أسرة ثرية، ولا يجد معه مالًا يتفاخر به بينهم، فيبدأ في قص الحكايات عن ثراء أبيه ومجد جده، ويلعن بورصة القطن التي أفقدت عائلته كل أموالهم.

استوطن المخدر في جسد عبد الحميد الديب، وتمكن منه الإدمان، فما كان يرى إلا زائغ البصر، ثقيل الخطى، يسير في الطريق بضع دقائق، ليقف ساعات مستندًا إلى جدار، محدقًا في المارة بنظراته المذهولة.

ولم يكن “الديب” وحده في هذه الفترة ضحية المخدر الأبيض، فقد أدمنه عدد غير قليل من أدباء مصر وأسرها.

دخل “الديب” السجن لإدمانه المخدرات، لكنه لم يضق به، فكل ما تغير أنه باع حرية التشرد بقيد الإستقرار، بالسجن، فلم يكن ساخطًا عليه، لأنه كما أخبر  عبد الحرمن عثمان، قد وجد الملجأ بعد بحث مضني، والهدوء بعد طول قلق اضطراب.

وأثناء فترة الحبس، تعرف عبد الحميد الديب على مأمور السجن الذي كان يحب الأدب ويحنو على الأدباء، فتوطدت العلاقة بينهما، ونال “الديب” من عطف المأمور.

كما كان السجناء يتحلقون حوله ليستمعوا له، وكتب في سجين أعمى، تعرض له الحراس بأساليبهم القاسية، وأذاقوه مر العذاب، شعرًا، يقول :”نم يا ضرير ففي عماك سعادة، ألا ترى عيناك من ظلموكا، ألا ترى أثر الطغاة وجورهم، عرضًا ذبيحًا أو دما مسفوكا”.

ظل عبد الحميد الديب في أيامه تائهًا، يشرب الكؤوس، إلى أن اشتد به الإدمان والمرض، فأخذه بعض أصدقائه إلى مستشفى المجاذيب بدعوى أنه مريض ليعالج هناك، وتم مرادهم وحصل على العلاج.

كان عبد الحميد يحاول أن يجد عملًا، لكنه واجه الشفل، فأصحاب الأعمال كانوا يرتابون في أمره ولا يطمئنون إليه، وحجتهم في ذلك أنه كان سجينًا، ولا يصلح أن يكون أهلًا للثقة، كما أن الحكومة لم ترأف به، ولم ترى إعفاءه حين تقدم إليها بالمؤهل وصحيفة السوابق.

كما أن كل من حوله ظلوا يلاحقونه بماضيه ويتجنون عليه، يثيرون الشبهات حوله.

بعد بحث مضني وضيق السبل، عطف عليه أحد الصحفيين فألحقه “مصححًا” في مجلة لقاء “قروش” يتقاضاها كل أسبوع.

إقرأ أيضا
أندريا بيرلو بقميص ميلان

كانت أقسى الأيام التي تمر على الشاعر عبد الحميد في القاهرة هي أيام الأعياد، فالأحياء الشعبية التي كان يألفها الديب كان لها مظهر من مظاهر التدين أو العادة، الفقير الذي لا يعرف الابتسام طول العام يعرفه في يوم العيد، والعامل الذي لا يجد قوت يومه إلأ بمشقة يجد “قروشًا” يدخرها ليدخل على صغاره البهجة، لكن “الديب” كان لا يعرف سوى الآلام.

كان يشم رائحة اللحم في العيد، وهو جائع يكاد يسقط من الأعياء، ويسير في الطرقات ليتلمس لنفسه طعامًا، إلا أن المطاعم العامة كان جميعها مغلق، فكتب في استقبال العيد يقول:”عيد تطالعني والعيش منكود، لأنت يوم الأسى والحزن يا عيد، يجدد الناس من لبس ومن فرح، وعندنا للأسى والهم تجديد”.

وكان أخيه الشيخ محمد الديب، قد نفض يده منه، فلما أرسل له عبد الحميد الديب يستعطفه ويسأله المعونة، لكنه لم يجبه، إما لضيق الرزق، أو لما وقع في حياة “عبد الحميد” الذي لم يتلمس لشقيقه العذر، فسخط عليه سخطه على الناس.

ويروي عبد الرحمن عثمان واقعة يثبت فيها أن إخوة عبد الحميد الديب، كانوا من أبر الناس إليه، وأحناهم عليه، لكن “عبد الحميد لم يكن يهمه سوى أن يحصل منهم على النقود بأي ثمن.

في صيف عام 1941، جاء شقيق “عبد الحميد” عبد القادر الديب، وهو أصغر منه سنًا، وشكى لـ”عثمان” ما يراه في أخيه “عبد الحميد” من انحراف وبعد عن الله، وكان “عبد القادر” يعمل في حي الأهر، وإذا وجد لديه ما زيد أعطى لـ”عبد الحميد” ما يشبه الاعتذار.

وفي صباح أحد الأيام، جاء “عبد الحميد” لصديقه عبد الرحمن عثمان، وفي وجهه ألم متكلف، فسأله: ما بك؟ فرد “عبد الحميد: أخي الجاهل عبد القادر، بعد أن استأجرنا بالأمس حجرة بثلاثين قرشًا، أرد أن يرغمني على النوم مثله عقب صلاة العشاء، فاصطنعت النوم حتى استغرق هو فيه، ثم خرجت وعدت في الرابعة صباحًا، وجدته قد خرج لصلاة الفجر في الحسين، وحين عودته وجدني عاكفًا على ما يكره، فلطم وجهه وصرخ مؤكدًا على أن الملائكة يقسمون الأرزاق في هذا الوقت، فجادلته بالحسنى قائلًا له: أنا مطرود من السماء ولا رزق لي أنتظره من أحد، فصرخ حتى كاد أ، يوقظ الجيران، فانهلت عليه ضربًا ولكنه حتى أصيب في عينه، وإني أخشى أن يكون قد فقد نورها، ثم غادرته في الحجرة وجئت إليكم.

بعد دقائق جاء “عبد القادر” شقيق الشاعر عبد الحميد الديب، معافى في عينه، وقبل أن ينصرف وضع في يد “عبد الحميد” قروشٍا ليتناول بها إفطاره، ثم انصرف.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
4
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان