شفتاكِ البيضاء تصيبني بالجنون
(1)
أمي سقطت. فقط أغمضت عينها فجأة، وفي اللحظة التالية أصبحت ملقاة على الأرض. اخوتي يبكون. نحملها للسرير. “ماما ماما .. اصحي يا ماما”. “كلم بابا بسرعة”.
شفتاها لونهما أبيض. ليس الأحمر الباهت المعتاد. الآن أبيض تماماً.
بعد قليل من الوقت والمياة والعصير أفاقت. والدي الطبيب أخذ منها عينة دم، وفي اليوم التالي أعلن نتيجة التحليل – المحسومة لديه سلفاً من النظر لوجهها الشاحب- : أنيميا حادة.
العلاج معروف: للحالات الطارئة نقل دم، وللحالات المعتادة أقراص الحديد اليومية الأزلية. لا يوجد علاج سريع. تحتاج شهراً أو اثنين على الأقل.
اسمها إلهام، وهي ملهمة فعلا، ولديها خمسة أبناء، وغمازتين ورثتهما عنها، وقلب أبيض، وشفاة بيضاء أيضاً لأنها لم تلتزم أبداً بأقراص الحديد للأسف. بعد أيام قليلة نست مكان “شريط البرشام” أصلاً، إلا حين يهاجمها “الهبوط” أو “الدوخة” من وقت لآخر، فتشتكي لوالدي الذي يلومها على ترك العلاج.
دائماً إنهاك وشحوب. ظلت درجات لون شفتيها هي درجات الأحمر الباهت.
“ماما ماما .. اصحي يا ماما”
(2)
أمضيت فترة الامتياز في مستشفى امبابة، والتكليف في وحدتين صحيتين بقريتين في ريف القليوبية. كل يوم وكل ساعة تأتي هذه الفتاة أو السيدة، كأن هناك مصنع واحد ينتجهن بنفس المواصفات: عباءة سوداء أو إسدال صلاة – وجه شاحب بائس – صوت مبحوح – شفاة بيضاء جداً – أحياناً قشور على الشفاه الجافة.
مرافقها المفزوع يقول أنها سقطت فجأة. ربما يكون بصحبتهما طفل شفتاه حمراوتان للغاية. حين تفيق تقول أنها في الأشهر الماضية كانت تشعر بنوبات “دوخة وصداع وتنميل” ولم تهتم.
كالعادى أكتب نفس العلاج، وأعرف جيداً أنها كالعادة لن تنتظم عليه رغم كل تأكيداتي المتكررة بالالتزام وتكرار التحليل، وبتناول الأطعمة المحتوية على الحديد.
الأم المصرية التقليدية داخل رأسها مليون تفصيلة عن التنظيف، والمسح، والطبخ، ومدارس الأبناء، ومصاريف الأبناء، ومستقبل الأبناء، ومكان أصغر لطلبات الزوج المتنوعة. لا يوجد مكان فارغ لأي شيء آخر حتى لو كان هي.
الحياة في مصر، مصنع القسوة في حد ذاتها، تنتج أعداداً لا تنتهي من البشر الذين يكافحون فقط للنجاة من الغرق. زوج يعمل عملين أو ثلاثة ويعود مُستهلكاً تماماً، وحشود من الفتيات والنساء اللاتي يكتسبن وجودهن من وجود أبنائهن أو أزواجهن فقط، هن لا شيء.
بالتأكيد لديها 30 ثانية يومياً تتناول بها قرص الحديد، لكن ليس لديها 30 ثانية تتذكر فيها أنها موجودة أصلاً.
الكابوس يتحقق، ثم يحوله الاعتياد إلى واقع عادي جداً.
(3)
نفس المصنع ينتج طرازاً آخرمن المصريات بأعداد أقل: تقريباً كل يوم هناك تلك الزوجة الشابة التي لم يرها زوجها منذ الأمس، ولا يبدو أنه سيراها اليوم. لا يعرف حرفاً عما كانت تفعله بغيابه، ومحور كلامهما الوحيد هو تعقيدات الأموال المطلوبة للأبناء.
تفكر أن هذا لم يكن ما تخيلته لحياتها بعد الفستان الأبيض. تحاول مقاومة الكابوس، تقاوم تحولها إلى والدتها المسحوقة التي فكرت أنها لن تكون مثلها. تشعر ببعض الدوار فتقرر أن تكمل المسرحية، تمثل الإغماء، ليأتي بها مفزوعاً إلينا.
الاطباء وطاقم التمريض قساة جداً مع هذه الحالات. غالبا يتم استخدام الكحول داخل الأنف كبروتوكول فوري، لأي حالة إغماء بمجرد دخولها المستشفى، لأن ألمه الحارق يجبر من يمثل على الصراخ فوراً. القسوة الأعلى هي حقن الكحول أسفل الجلد وهو أقرب للكي بالنار حرفياً.
هذه القسوة بدورها تأتي من نفس مصنع الحياة القاسية على طاقم المستشفى بدورهم. حين تجد نفسك فجأة في ساعة الذروة بين عشرات الحالات الصارخة في نفس الوقت، بينما دائماً هناك دواء ناقص أو آلة جراحية مفقودة، تقترب من الجنون. مطلوب منك أن تحارب الموت شخصياً دون سلاح. يصبح ترفاً مستحيلاً أن تنظر بشفقة لتلك “الست الفاضية” التي تأتي لتضيف المزيد من العبء والاستفزاز. أسبابها العاطفية الخاصة قد تعطل إنقاذ حياة ذلك المصاب في حادث “المكروباص والمكنة على الدائري”.
أحياناً كنت أستخدم الكحول في الأنف وأحياناً لا، حسب الازدحام والظروف، وحسب ذكاء الممثلة وتوتر مرافقيها. لكن دائماً كنت أطلب من الزوج أن يمسك يد زوجته بحجة أني يجب أن أقيس ضغطها الآن، أفكر: ربما لم يمسك يدها منذ أشهر، ربما أحدهما يتذكر أياماً سعيدة قديمة الآن. بعدها أصطحب الزوج للخارج وأمثل بدوري صورة الطبيب الخطير الغامض قائلاً: “انت مزعل مراتك مش كدة؟ .. مراتك عندها عَرَض نفسي خلاها يغمى عليها، حاليا ده مش محتاج أي أدوية غير انك تاخد بالك منها شوية”
أقر وأعترف أن دوافعي العاطفية التلقائية في البداية لفعل ذلك تلوثت بعدها بدوافع مصلحة بحتة، قادمة من نفس مصنع القسوة: لا أريد أن تضطر هذه الزوجة للتمثيل من جديد، فتأتي إلينا من جديد!
(4)
نفس المصنع ينتج فئة أخرى من ذوات الشفاه البيضاء: الأم المسنة التي أفنت عمرها كله تبذل جهداً هائلاً كل يوم 18 ساعة على الأقل، حتى كبر الأبناء ورحلوا، ثم … لا شيء.
حرفياً هي نست نفسها طيلة 40 عاماً، فلا يمكن أن تتذكرها أو حتى تتعرف عليها الآن. ليس لديها أي هواية، ولا أي اهتمام، ولا أي عمل (لو كانت موظفة فقد خرجت على المعاش). في حياتها كلها لم تسافر أبدأ بمفردها أو مع زوجها فقط بدون الأبناء. بل لم تخرج في نزهة بمفردها او مع صديقاتها فقط أبداً. الآن قد تلتقي بصديقاتها رفاق الـ “لا شيء”، ليتحدثوا أيضاً عن لا شيء.
ملل وسأم وفراغ. هواجس عدم التقدير من الأبناء الذين ابتعدوا مهما كانو قريبين. الزوج غائب سواء بالموت أو بالنزول لرفاق القهوة والعمل.
في هذه الكآبة لا مجال للاهتمام بالطعام أو الانتظام الجاد في العلاج. كأنها قررت أن تنتظر الموت فقط .
(5)
منذ أيام كنت في “كارفور المعادي” وشاهدت حشوداً من الشباب والبنات يشترون لأمهاتهم أجهزة وأدوات المطبخ، لأنها طبعا هي الهدايا المناسبة في عيد الأم القادم!
لماذا لا يهديكن أبنائكم أو أزواجكم أصابع روج؟ لماذا لا تقاومن بياض شفاهكن ولو باصطناعه؟ ربما يتحول إلى حقيقة بعدها.
(6)
لذلك يا إسراء تفهمين الآن لماذا أكرر بإلحاح – ترينه مستفزاً – أهمية أن تلتزمي بتناول أقراص الحديد يومياً. لم أخبركِ أبداً أني نويت منذ زمن ألا تكون شفتيّ زوجتي بيضاء. لا يمكن السماح بحدوث ذلك.
أراقب بقلق خفوت اللون الأحمر في شفتيكِ يوماً بعد يوم منذ بدأتِ إرضاع يحيي. مفترض أننا أذكى. مفترض أننا يمكن أن نقاوم مصنع القسوة بطريقة أفضل. مفترض ألا تتحولي لأم مصرية تقليدية “غير موجودة”.
يحيي جميل ومهم، لكنه ليس أجمل ولا أهم منكِ . يجب أن يفهم ذلك بمجرد أن يعي الحياة، ويجب أن تتذكري ذلك قبله.
إسراء .. بياض شفتيكِ يصيبني بالجنون. أوقفيه لوسمحتي!
اقرأ أيضا