شهداء السد العالي المنسيين “حين فتكت شمس أسوان باثنين من المهندسين”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
الجميع يعرف الظروف والأسباب التي من أجلها تم بناء السد العالي والأضرار والفوائد التي حصدت وراء بناء ذلك السد، ولكن هناك كواليس متعلقة بالجنود المجهولين للحلم القومي ولم يعرفها أحد.
قصة الشهيد أمين أنور وشمس أسوان الحارقة .. كان يشعر بقرب رحيله
لم يكن بذل النفس من أجل إتمام بناء السد العالي مقتصرًا على عمال البناء والحفر، وإنما كانت قائمة الشهداء التي حوت اسماء العمال والبنائين تحوي ايضًا اسماءً للمهندسين الذين بذلوا النفس والجسد في بناء تلك البناء العظيم.
اقرأ أيضًا
من هو الفنان الذي تبرع بكل ما يملك لبناء السد العالي ومشى عبد الحكيم عامر في جنازته؟
ضمت قائمة شهداء المهندسين اسم المهندس اللواء “أمين أنور الشريف” المدير العام لهيئة المقاولون العرب، والذي تسببت ضربة شمس في موته، والتي نشرت جريدة أخبار اليوم قصته يوم 16 مايو 1964 م.
اقرأ أيضًا
ويقول فين يامّا أسوان؟.. عن ملحمة إنسانية تركها عبد الرحمن الأبنودي
في صباح الساعات الأولى من شهر ديسمبر عام 1962 ومع بزوغ شمس أسوان الحارقة، استقل المهندس أمين الشريف وصديقة المهندس عثمان أحمد عثمان رئيس مجلس شركة المقاولون العرب، سيارة صغيرة ليتوجها إلى موقع العمل، وفي أثناء قطع السيارة للطريق الذي اعتادت أنْ تقطعه كل يوم مخترقة طرق كثيرة، كان الصديقان يتحدثان عما ينتظرهم من عمل، وانتهى بهم السير عند ميناء صغيرة تحت الإنشاء تحول فيما بعد مرسى للسفن وسيتم إلقاء الصخور في قاع النيل.
عندما وصلا أقدم عليهما العمال ودار بينهم حديث طويل حول إنجازات العمل في الميناء، وبعد نصف ساعة غادرا الميناء، وذهبا إلى قناة التحويل حيث كان العمل هناك يجري على قدم وساق في عمليات الحفر، وهما ما زالا يتفقدان كل شيء بدقة ويتناقشان.
ما كان للمهندس ولا عثمان أحمد عثمان يدريان بما يخبئه القدر، إذ حمل الجو نسمة ساخنة حارقة حاملة في جوفها رمال متطاير من بقايا التفجير هبت عليهما في مباغتة، مصطحبة سحابة من الدخان الأسود، وبعد أنْ أنهيا تلك الجولة، عاد الرجلان إلى المكتب الذي يقبع على مشارف الموقع ليتناولا إفطارهما، ولكن اللواء أمين صامت لا يتكلم ولا يأكل، وضربات قلبه تتزايد شيئًا فشيئًا، وألم مبرح يسري في صدره، ولكنه لا يشكي.
فجأة وفي مشهد وجيز هب المهندس أمين من مقعده دون مقدمات معلنًا أنه سيعود إلى الميناء، ولكن ذلك التصرف لم يكن غريبًا عليه، كما روى صديقه اللواء “أمين عمر” أنه كان يغادر بيته في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار متوجهًا إلى الموقع ليتأكد من عملٍ ما أو ليشرف على تنفيذ أجراء معين.
في تلك الأثناء ومن حسن الحظ لم يجد صديقه “عثمان أحمد عثمان” مفرًا من مصاحبة صديقه، وجلس “أمين الشريف” أمام عجلة القيادة وفي الطريق حاول عثمان أن يعرف السر وراء هذه الزيارة المفاجئة ولكن ظل أمين صامتًا وضربات قلبه تشتد عليه وتزيد في العلو لتفوق ضجيج الآلات ودوي الانفجارات مصاحبة سخونة شديدة تسري في جسده وسكين حادة تشق قلبه المجهد.
توقفت السيارة عند الميناء، وهم عثمان بالنزول ولكنه لمح صديقه وقد مال برأسه على عجلة القيادة ويداه مرتختين ولا يبدي حراكًا، انحنى عثمان على صديقه مذعورًا، وتجمع العمال مذعورين وعج المكان، وذهب البعض ليتصل بطبيب وجاء الطبيب، ولكن ماذا يفعل الطبيب أمام العيون الغائرة والوجه المحتقن وطيف الموت يطوف عليه، إنها ساعات الموت.
أخبرهم الطبيب أنها ضربت شمس، وجاءت سيارة الإسعاف ونقلوه إليها ومن حوله الطبيب والصديق، انطلقت سيارة الإسعاف في تسابق مع ملك الموت تحاول أن تسابق الزمن، تجوب أرجاء الموقع، وكأنها تريده أن يلقي تحية الوداع على كل من عاشرهم في تلك الفترة وعاش معهم وأحبهم وأحبوه، وعلى تلك الارجاء التي قضي فيها أعز سنوات عمره، وعندما غادرت السيارة أخر بقعة في موقع السد، تسللت الروح من الجسد المضنى وصعدت إلى السماء.
بعد 3 ساعات حلقت طائرة حربية خاصة تحلق فوق أسوان، وكأنها سحابة داكنة تبعث في النفس إحساسًا بالكآبة والضيق، ةخيم على الناس حزن عميق عصر قلوبهم، تعلقت أبصار العاملين بالطائرة وهي تغادر الموقع حاملة في جوفها واحدًا من بناة السد، الذي أفنى حياته في سبيل العمل الذي أحبه، سقط كما يسقط الأبطال في معارك القتال فكان أول شهيد في السد.
الشهيد أبو الليل سيد .. ضربة الشمس كسهامٍ نارية
القصة الثانية استشهاد المهندس “أبو الليل سيد” رئيس قطاع الخرسانة بهيئة السد العالي وتلتقي خيوط تلك القصة مع قصة اللواء “أمين الشريف” نفس الملامح والكفاح الذي لا يعرف سبيلًا للراحة.
يبدأ الفصل الأخير في حياة المهندس “أبو الليل” في يوم من أيام أشهر يونيه عام 1963، أرسلت شمس أسوان أشعتها الملتهبة وكأنها سهام نارية تشوي الوجوه، ولكن المهندس الشاب كان يتجاهل تلك الحرار التي تتغذى على رأسه العاري، ولكنه منهمك في عمله لا يلقي لها بالًا ولكن بدأت طرقات خفيفة من الصداع تطرق رأسه العاري ولكنه تحاشها وظل مواصلًا عمله بجهد وحماس مثل شمعة تضئ غير عابئة بألسنة اللهب التي تجتاحها.
وظلت تلك طرقات الصداع تتزايد حتى تحولت إلى دقات عنيفة كأنها طبول جيش مغولي، يحمل في أعقابه الدمار والخراب، ولكنه لا يريد الاستسلام أو التنحي عن مكانة في المعركة، كان يعمل ودرجة حرارته في الأربعين، ولكن المرض أفقده القدرة على الحركة وألزمه الفراش، ومع ذلك يحاول المقاومة في صراع رهيب بين المرض والواجب، بين اليأس والأمل، تطوف برأسه أحلام هوجاء، يتصور فيها نفسه بعيدًا عن العمل المقدس الذي عاش له، محاولًا النهوض ليأخذ مكانه في معركة الجبل، حتى لو كانت حياته في خطر كما حكى أصدقاءه عنه أقاصيص تصل إلى حد الأساطير.
يحكي صديق عمره المهندس “محمد السعيد حسونة” قصة الليالي التي عاشها مع المرض في شجاعة وعناء وكبرياء، قائلًا كم من ليلة كان يهب فيها مذعورًا محمومًا يريد أنْ يذهب إلى عمله فيعجزه المرض، وجاءوا له بمدير مستشفى الحميات بالقاهرة وأكتشف الطبيب أنْ المرض “ضربة شمس” وليست حمى تيفود، وأشار بضرورة نقله إلى القاهرة.
حجزوا له مقعدا على الطائرة التي تغادر أسوان في السادسة مساءً، وفي صباح يوم السفر تفاجأت زوجته بنهوضه من فراشه ووجهه منتعش، وحرارته انخفضت، وبدأ خيط ضئيل يتسلل بين طيات اليأس المخيم على النفوس، وتخيل لها أنْ شبح الموت أبتعد عن شريك عمرها.
ومرت فترة الظهر ثقيلة على زوجته وهي تهيئ له معدات السفر، وتستعجل اللحظة التي يصلان فيها إلى القاهرة، ولكن كان القدر أقسى مما تظن فقد محا بسمة أمل لم تكد ترتسم على الشفاه، ومن المحزن أنهما رجعا على نفس الطائرة التي حجزت له فيها مقعدين، أحدهما لزوجته والثانية للشهيد “أبوالليل سيد” جسدًا صامتًا بلا روح، تغمره دموع الزوجة.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال