رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
643   مشاهدة  

شيخ الملحنين زكريا أحمد : مسيرة حافلة بالأعمال الخالدة.. الفصل الثاني

الشيخ شيخ


من الأمور التي اتفق عليها السميعة من المخضرمين المنخرطين في هذا الفن، أن ألحان الشيخ زكريا أحمد تتحدث عن نفسها، تكاد تقول: أنا بما فيّ من سلطنة وطرب ألحان زكريا أحمد، فالسميع المخضرم بمجرد بداية اللحن وما أن تكتمل الجملة الأولى يقول: هذا النوع من الجمل وهذه الجرعة من السلطنة تنبيء عن شخصية الشيخ زكريا أحمد، ولا أخفيكم سرا، فكثيرا من ألحان الشيخ زكريا قد عرفتها بهذه الطريقة قبل اطلاعي على تفاصيل القطعة.
ولعل ذلك هو أهم ما ميز الشيخ زكريا أحمد في مسيرته، فقد عرف عن زكريا أنه صاحب مزاج خاص في التلحين، مزاج يميل إلى المحافظة على كلاسيكية الألحان وشرقيتها الخالصة، إلا أن ذلك دفع بعض النقاد إلى القول بأن زكريا معاند للتجديد والتطوير وهو قول غير دقيق وغير منصف، فالشيخ زكريا على ما سنوضح فيما بعد، قد طور قالبي الدور والطقطوقة بما يتناسب مع الوقت، إلا أن هذا التطوير كان داخل إطار الشرقية الخالصة، فلم يمس المقامات أو الآلات أو الإيقاعات بل كان التغيير مُدخلا على الشكل ذاته.
وعن فكرة التجديد والتطوير يقول الشيخ زكريا أحمد في حوارة مع مجلة الإذاعة اللبنانية:
إن هذا الذي يسمونه تجديدا في الموسيقى هو في الواقع قضاء على روحنا الشرقية الأصيلة، إن الموسيقى لم تعد في هذه الأيام إلا متاجرة بعواطف المستمعين، والألحان التي يقال إنها مجددة هي التي تهدم الذوق الفني في الشرق، أما أنا فلن أهبط بفني إلى مستوى المتاجرة، سأظل على ما أنا عليه، أعطي لحنا واحدا قويا في العام، وأصبه في حنجرة صافية تحسن تأديته، ثم آوي إلى نفسي وأنا في اطمئنان إلى أنني أديت واجبي، وليس أكره عندي من أن يمر الناس على لحن لي مرورا عابرا فلا يحسوا به.
هذا كان كلام شيخ الملحنين، وحقيقة هذا الكلام لا ينبيء فقط عن عبقرية زكريا الملحن، بل ينبيء كذلك عن شخصيته القوية العزيزة، ينبيء عن كرامته واحترامه لنفسه وفنه، ينبيء كذلك عن صرامته وحزمه، لم يكن صعبا على الشيخ زكريا أن يجاري عصره فيلحن وفق التطوير المزيف الخرب الذي تحدث عنه، بل كان أمرا سهله سيحقق له مكاسب مادية هائله، إلا أنه حاد بنفسه عن هذا الرخص محترما فنه، محترما قيمة الموسيقى الشرقية الأصيلة، ليس ذلك فحسب بل كان زكريا شخصاً مزاجيا في التلحين، فكما ذكرنا عن طريقته في التلحين المسرحي ومقولته الخالدة: .. كنت أمد يدي إلى قلبي فأخرج منه نغمه، فها هو يتكلم عن سلوكه في التلحين فيقول: كنت ألحن أحيانا حين يروق مزاجي، وأحيانا بعد مشادة وأحيانا حين تتوقد مشاعري وأحاسيسي، فأقوال زكريا لم تكن عبثا بل كانت مقرونه بأفعال صادقة، ولذلك كانت ألحان زكريا ألحانا صادقة وخالدة قادرة على بث الانفعال في النفس، جرب مثلا أن تستمع لدور ياما أمر الفراق أو دور إمتى الهوى يجي سوا لتدرك ما أتحدث عنه.
ويروي نجيب محفوظ أنه كان في سهرة مع الشيخ زكريا، وأخذ زكريا يلحن طقطوقة أم كلثوم( إيه أسمي الحب ماعرفش) مقطعا مقطعا، فيسمع السامرين اللحن ويشاورهم فيه، فتنتهي السهرة وقد حفظوا اللحن الجديد لأم كلثوم، ويروي زكريا أنه لحن دور ياما أمر الفراق وسط جنازة شاب متأثرا بحزن المشيعين، وهنا أقف وأتسائل، ما هذه العبقرية وما هذا الإحساس الذي كان عليه هذا الرجل؟؟ لا يفوت موقفا ولا حالا إلا سخره لفنه، إلا وجعله مفتاحا لجديده، ولا عجب فهذا هو الشيخ زكريا أحمد الذي خط اسمه باقتدار في تاريخ ملحني الموسيقى الشرقية.

مشوار الشيخ زكريا أحمد مع كوكب الشرق أم كلثوم، وملامح تطويره لقالبي الطقطوقة والدور:
بدأ الشيخ زكريا أحمد مشواره التلحيني مع الآنسة أم كلثوم عام 1931م، بطقطوقة اللي حبك يا هناه، وهي أول طقطوقة على الطراز الجديد، وهو ما سيأخذنا للحديث عن التطوير الذي أدخله زكريا على قالب الطقطوقة.
كانت الطقطوقة فيما قبل جامدة اللحن، بمعنى أن كل أغصانها كانت تلحن على مقام واحد بذات اللحن الذي يغنى به المذهب، والأمثلة على ذلك كثيرة، كطقطوقة قال إيه حلف مايكلمنيش، وطقطوقة يا كروان والنبي سلم وطقطوقة على بلد المحبوب وديني، فعدل زكريا عن هذه الطريقة التقليدية في التلحين، فلحن كل غصن على لحن مختلف إما على نفس المقام أو حتى على مقام جديد وهو ما أثرى هذا القالب فأخرج لنا منتجا جديد الشكل اسمه الطقطوقة المطورة نذكر منها:
طقطوقة الورد جميل، وطقطوقة جمالك ربنا يزيده وطقطوقة بكرة السفر، ويظهر أثر هذا التطوير فيما قام به المرحوم داوود حسني، فالطقطوقة الوحيدة التي لحنها لأم كلثوم (جنة نعيمي في هواكي) قد لحنها على هذا الأساس.
أما عن قالب الدور، فقد أدخل زكريا على ألحانه في الأدوار تعديلات أكسبته طعما جديدا ومذاقا خاصا يستطيع المتذوق لهذا الفن أدراكه، فأحيانا كان يعدل مواضع الآهات واحيانا أخرى يجعلها خاتمة للدور وأحيانا يستبدلها بـ يا ليل يا عيني، حتى الكلمات كان يغير فيها لتحتمل اللحن وتتناسب معه، أحيانا يجعل لحن المذهب هو لحن الدور وأحيانا يجعلهما متغايران وأحيانا يكسب هذا من طعم ذلك، وكل ذلك في سبيل اخراج الدور بشكل جديد دون إخلال بروح الموسيقى الشرقية.
ومن أهم الادوار التي الشيخ زكريا لأم كلثوم: دور هو ده يخلص من الله ودور ياللي تشكي من الهوى ودور يا قلبي كان مالك ومال الغرام ودور امتى الهوى يجي سوا ودور ابتسام الزهر وأدوار أخرى.
بعد عام 1939 توقف إنتاج الدور ، واستمرت الطقطوقة فأخذت تتطور أكثر وأكثر وباتت مطولة تشبه المونولوج ولم يتوقف زكريا عن إمداد أم كلثوم بعظيم الألحان التي غنتها في تلك الفترة، وأثرى هذه الحقبة ميلاد الثلاثي ( زكريا وبيرم والآنسة) فبعد عودة بيرم من المنفى التقى بأم كلثوم بترتيب من زكريا بناء على طلبها فكان ذلك من حظ جمهور المستمعين الذي حظى بجواهر عديدة أخرجها لنا ثلاثي السلطنة زكريا وبيرم وأم كلثوم نذكر منها:
أهل الهوى، والآهات، وحبيبي يسعد أوقاته، والأولة في الغرام، وأنا في انتظارك.
ولسوء حظ جماعة المستمعين، اختلف زكريا مع أم كلثوم عام 1948م، خلافا حول المستحقات المالية لن ندخل في تفاصيله استمر لمدة 13 عام قبل أن يتصالحا في الشهور الاخيرة من حياة زكريا ليعود بعدها بآخر ألحانه لأم كلثوم(هو صحيح الهوى الغلاب) لتكون مسكا لختام مسيرته مع كوكب الشرق أم كلثوم، وللمصادفة كان اللحن على مقام الصبا، فالقدر يأبى إلا أن يقول مقولته، لحن حزين يناسب النهايات، وكأن الألحان تنعي صاحبها.

ألحان الشيخ زكريا أحمد لمطربي عصره:
كان الشيخ زكريا أغزر ملحني عصره، فقد لحن ما يقرب من 1100 لحن للمطربين الذين عاصروه، وأول من غنى من ألحانه كان المطرب الكبير والحارس الأمين للمغنى الشرقي صالح أفندي عبد الحي، والمطرب عبد اللطيف البنا، والمطربة الكبيرة منيرة المهدية.
وفيما يلي بعض المطربين الذين غنوا من ألحانه:
الست فتحية أحمد، والشيخ أمين حسنين، وزكي أفندي مراد والست بديعة مصابني والست نعيمة المصرية، والمطربة فاطمة قدري والست أسمهان والمطربة الكبيرة نادرة امين والمطربة سعاد محمد والست نجاة علي والست ليلي مراد وغيرهم.
تميز الشيخ زكريا أحمد رغم شخصيته الحازمة وطباعه الجادة بالشخصية الفكاهية المرحة، فقد كان محبا للسهر والسمر مع الأصدقاء، وكان حكايا من الطراز الرفيع وهو ما بدا من تسجيلات سهراته غير المتداولة على شبكة الانترنت كتسجيله الذي يحكي فيه عن الشيخ محمد قفة الذي كان مقرئا للسورة في المسجد أيام عبده الحامولي، وتسجيلاته حول حكايات القصبجي والخلعي وبيرم وغيرها، كل تلك التسجيلات أظهرت الحس الفكاهي لزكريا وقدرته المذهلة على الحكي، فحين تستمع لأسلوبه في السرد تشعر وكأنك تتابع فيلما أو مسلسلا كوميديا لا يمل.
وآه آه مما يخفيه القدر بعد هذا المشوار الحافل بالفن والفكاهة، في الرابع عشر من شهر فبراير عام 1961م، طويت الصفحة، وتوقفت الألحان، وخسرت الموسيقى رجلا من رجالها وحارسا من حراسها، خسرت مصر قيمة وقامة وودعت منبعا من منابع الطرب والسلطنة.
مات زكريا، ولم تمت ألحانه التي خلدها الزمن.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان