صدق أو لا تصدق عبد الحليم حافظ صاحب أول تجربة أندر جراوند في مصر
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
برز مصطلح موسيقى الأندر جراوند في مصر، في بداية الألفية الجديدة في إشارة إلي الإنتاج المستقل البديل الذي يسير في اتجاه مغاير للتيار الموسيقي السائد، وعبرت عنها العديد من الفرق الغنائية مثل “وسط البلد” و”إفتكاسات” و”مسار إجباري” حتى توسعت تلك التجارب بعد ثورة يناير حيث كانت كل الطرق ممهدة لتخرج تلك التجارب من هامش المشهد الموسيقي “تحت الأرض” إلي متنه.
حتى الأن لا يوجد تعريفًا واضحًا لهذا المصطلح الذي قد يحصره البعض في استقلالية الإنتاج وحرية الاختيارات، رغم أن هناك نجومًا كبيرة في تيار الأغنية التجارية يتمتعون باستقلالية وحرية في اختياراتهم وأن تماست في النهاية مع النمط الموسيقي السائد، أو قد يحصره البعض في شكل موسيقي بعينه مثل الروك أو الريجي أو الجاز، وهو الذي يزيد الأمر التباسا حيث أن تجربة “محمد منير” على سبيل المثال قدمت موسيقى الجاز في بداية الثمانينات على الرغم من أنها تتبع ماكينة الإنتاج التجاري التقليدي، أو محاولة اخرى لنسب بدايات الأندرجراوند إلي الفرق الغنائية التي ظهرت في الستينات والسبعينات، والتي كانت مرتبطة بشكل ما بالحراك الثقافي و التيارات الجديدة للفنون في أوروبا، بل أن البعض حاول نسب البدايات إلي تجربة عمرو دياب في ألبوم “أيس كريم في جليم” مستغلين فراغ الساحة بعد اختفاء أغلب الفرق الغنائية، متناسين تجارب مثل “نغم مصري”و“فرقة يحيى غنام” والتي كانت تمثل تيار الموسيقى البديل في تسعينات القرن الماضي.
من عادتنا السيئة في قراءة المشهد الغنائي المصري، هي التركيز فقط على التجارب الغنائية التي أخذت فرصًا أكبر في الظهور والانتشار على حساب تجارب أخرى لم تأخذ ربع تلك الفرص، ومنها تجربة الراحل “عبد الحليم حافظ” مع الموسيقار الكبير “علي إسماعيل”.
من المعروف أن الثنائي تزاملا في معهد فؤاد الأول للموسيقى، وعند التخرج عملا في تدريس الموسيقي، قبل أن يعين عبد الحليم كعازفًا لآلة الأوبوا في فرقة الإذاعة، حتى ألتحق به على إسماعيل الذي كان يبحث عن شكل جديد للأغنية المصرية لا يتعدى الخمس دقائق، فعرض الفكرة على رئيس الإذاعة الذي اشترط عليه تسجيل ربع ساعة من تلك الاغاني الجديدة على نفقته الخاصة وأن وافقت عليها اللجنة سيتم صرف أجره بالكامل وأن رفضتها اللجنة لن ينال شيئًا،وبالفعل قدم على إسماعيل التجربة مع الثلاثي المرح ونجحت الفكرة في إقناع اللجنة بقبولها، ثم عهد إليه مستشار الإذاعة الموسيقار محمد حسن الشجاعي بتكرار الفكرة مع الصوت الناشئ “عبد الحليم حافظ” وهي التجربة التي لم تحظى بنصيب كبير في تاريخ عبد الحليم حافظ رغم تميزها واختلافها عن بقية تجاربه سنحاول إلقاء الضوء عليها على الرغم من مرور أكثر من ستون عامًا عليها.
إقرأ ايضًا … عن موسيقى المهرجانات والأندرجرواند وإعادة تعريف الجمال في الفن
يا عاشقين يا مغرمين.
كان مقصودًا البدء بتلك الأغنية؛ حيث تعتبر الأشهر ما بين بقية الأغاني، كتب الأغنية الممثل والشاعر “إمام الصفطاوي” والتي جاءت في قالب قصير، وتفاعل معها على إسماعيل الذي اعتمد على إيقاع الرومبا، واحتلت الاّلات النحاسية موسيقى الأغنية في تناغم بديع وهي من الأغنيات العابرة للأزمان في موسيقاها.
أغرق الأصيل.
من أهم ملامح تجارب الأندر جرواند الحديث هي الاستعانة بنصوص من الفصحى ودمجها مع عدة أشكال موسيقية غربية، لكن فعلها قبلهم بخمسين عامًا وأكثر العظيم على إسماعيل في تلك الأغنية حيث صاغ اللحن برشاقة على موسيقى البلوز،
الجدول.
على نفس النوعية السابقة في أغرق الأصيل، يعاود إسماعيل ابهارنا بموسيقى البلوز في الجدول، ولكن بشكل مغاير وإيقاع أبطء قليلًا، مع تألق لافت لآلة الترومبيت كل هذا مدعوم بخطوط وتريات قوية بجمل لحنية مغايرة عن اللحن الأصلي، تلك الأغنية تثبت قدرات إسماعيل كموزع موسيقي كبير في وقت كانت الأغنية العربية لا تعرف أصول التوزيع الموسيقي بشكل علمي مدروس ، ولا زالت أسيرة توحيد الأصوات.
فرحتنا يا هنانا.
على إيقاع الفالس الشهير تأتي تلك الأغنية المبهجة، حيث تلعب آلات النفخ الخشبية دور البطولة، مع إيقاع لاهث سريع و تقطيعات لحن بسيطة وقوية في نفس الوقت، اللزمة الموسيقية تحمل بصمة على إسماعيل والتي سنعرفها لاحقًا خصوصًا في الموسيقى التصويرية للأفلام حيث الوتريات المدمج معها الآلات النفخ الخشبية والإكسليفون الذي يعطي قوة أكبر مع الإيقاع.
غني وغني.
في بدايات احتراف الموسيقى عمل على إسماعيل في الملاهي الليلية، وكان قائدًا للعديد من الفرق فيها، وهو ما وضح تأثره بتلك الفترة، حيث صاغ المقدمة الموسيقية على إيقاع “الفوكس تروت” السريع الراقص والذي كان يعزف في الفواصل حيث يرقص رواد تلك الأماكن، مع لحن رشيق سلس يتناسب مع كلمات إمام الصفطاوي البسيطة.
سكون الليل.
مقدمة حالمة بالبيانو، يعقبها دخول صفارة عبد الحليم حافظ على إيقاع السلو رومبا، التي تسلم الوتريات بكل سلاسة وخفة، خطوط الوتريات قوية جدًا تنم عن موزع موسيقي فذ، ثم يأتي دور اّلالات النفخ في لزمة الأغنية والتي صاحبتها الوتريات لحن بسيط دون زخرفة وأداء سلس وبسيط من عبد الحليم.
شكلت تلك التجربة الهامة ملامح فن عبد الحليم حافظ فيما بعد، حيث الأداء البسيط المنضبط، الأعتماد على التعبير بالصوت أكثر من التطريب، لا حاجة لأستخدام طبقات الصوت بالكامل، اغاني بسيطة وسلسة تعلق بسهولة في أذن المستمع، ومع ذلك لم تحظي تلك التجربة بالتقدير الكافي على الرغم من اختلافها عن نمط الموسيقى السائد في أوائل الخمسينات، ومن الجائز والمشروع جدًا أن نتعامل معها على أنها أول تجربة اندر جراوند حقيقة في مصر.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال