صلاح رجب .. رائد موسيقى الجاز الحقيقي في مصر

لا أعرف أن كان هذا متعمدًا أم لا؛ أن يسقط غالبية نقاد ومؤرخي الموسيقى فى مصر اسم “صلاح رجب” من قائمة رواد حركة تطوير الموسيقى في مصر، لو مررت على كتابات أمثال “زين نصار” و”سمحة الخولي” و”إلياس سحاب” سنجد أسماء لمؤلفين عدة من بينهم من هم  أقل في القيمة الفنية والإسهامًات منه، و يختفى من القائمة أسم “صلاح رجب” وكأن ريادته وإسهاماته في موسيقى الجاز في مصر لم تشفع له.

على جانب أخر يتصارع بعض الموسيقين في محاولة منهم للسيطرة على عقول الجماهير تأكيد ريادتهم لموسيقى الجاز في مصر، يتفنن أحدهم في ضرب رأسه بعصا الدرامز كأنه يريد أن يقنع عقله بأنه أول من أدخل هذا الشكل الموسيقي الجديد إلي الموسيقى المصرية، ويجلس اّخر يلعن المنتجين ومطربي الكاسيت لجهلهم الموسيقي وأنه أول من أدخل موسيقي المزج “الفيوجن” في مصر، وينهل الكثيرون من مؤلفاته بل وتسمي المقطوعات الجديدة بنفس أسمائها، بينما يرقد تحت التراب جسد صلاح رجب يسخر من المتصارعين على ريادته وإرثه الفني.

ولد “صلاح رجب” عام 1935 في حي حدائق القبة بالقاهرة، نشأ في عائلة كان أغلبها من المنتمين إلى العسكرية المصرية، وسار هو على نفس الخطى، فتخرج في الكلية الحربية وخدم فى الجيش المصري من عام 1957 حتى أوائل السبعينيات، تلك الفترة المضطربة سياسيًا في الشرق الأوسط ، شارك فى حرب اليمن وكان قائدًا لفرقة دبابات وقت نكسة يونيو”1967″، ووقتها انتشر خبر قتله فى إحدى المعارك، وانتهى به المطاف شريدًا فى صحراء سيناء، حتى عاد إلى منزله سيرًا على الأقدام في تجربة مأساوية جدًا .

كانت بدايات “رجب ” الفنية عندما استمع إلى أحدى مقطوعات الجاز لفرقة “ليونيل هامبتون” عازف المارمبا الشهير،  بثتها إحدى الإذاعات الإنجليزية فى القاهرة عام 1954، ومن هنا بدأ شغفه وولعه بموسيقى الجاز، حيث كان يقضي الليالى فى اكتشاف الأماكن والكازينوهات الصغيرة التى تقدم هذا اللون من الموسيقى، فى وقت كان المشهد الرسمى للموسيقى المصرية يحتله المطربون المشاهير “أم كلثوم” و”عبد الحليم حافظ”.

كانت عروض الجاز فى تلك الفترة شائعة جدًا، فى ظل تزايد عدد المغتربين من المفكرين و الموسيقيين الأمريكيين ذوى الأصول الأفريقية بسبب الإضطهاد العرقي، وكانت مصر فى تلك الفترة حاضنة لهم تكريسًا للدور الذى كان يقوم به نظام يوليو فى تلميع صورته كأحد الأنظمة المناهضة للسياسات الاستعمارية وضد العنصرية.

بعد زيارة قصيرة لأمريكا تعلم فيها “رجب” العزف على آلة الدرامز ، عاد إلى مصر والتقى بعازف الساكسفون الأمريكي ذي الأصول الأفريقية “ماكس سبيرز”  الهارب من جحيم العنصرية الأمريكية إلى القاهرة ، حيث كان سبيرز يعمل في تدريس الموسيقى بالإضافة إلي دراسة الإسلام في جامعة الأزهر، وقتها كان سبيرز يريد تكوين رباعي موسيقي، وبدأ في البحث عن عازف درامز ورشح له أحد الأشخاص “صلاح رجب” الذي كان قد انضم إلي فرقة الموسيقات العسكرية المصرية.

بدأ الأثنان عروضها الموسيقية فى القاهرة، وتكونت صداقة عميقة بينهما، تعلم “صلاح” على يديه فى تلك الفترة أصول موسيقى الجاز، لكن جاءت قرارات التأميم و التي أثرت على وجود العازفين الأجانب في مصر فاضطروا إلي الهروب أو الخروج مرغمين من البلاد بعد تنامي مشاعر الغضب لدى النظام ضد كل ماهو أجنبي فاضطر “ماكس سبيرز” لمغادرة البلاد.

ظل حلم إنشاء فرقة موسيقية كبيرة يراود “رجب”، حتى واتته الفرصة عام 1968 بعد تعيينه رئيسًا لقسم الموسيقى العسكرية في الجيش المصري، قاد رجب حوالي ثلاثة آلاف موسيقي يؤدون العروض العسكرية لكنه قرر ان يختار مجموعة مكونة من عشرين شخصًا تخصصوا في لعب موسيقى الجاز وأرسلهم إلى معسكر خاص في احدى القواعد العسكرية في مصر الجديدة ومن هنا تكونت فرقة “كايرو جاز  باند”

تعاون رجب مع صديقه الموسيقي الألماني “هارتموت جيركن” في تدريب الفرقة، ورشح له عازف الجيتار التشيكي “إيدو فيزفاري” حيث بدأوا في تعليم الفرقة أسس موسيقى الجاز، وتم تقسيم الفرقة مجموعات منفردة حسب نوع الاّلات الموسيقية لتعليمهم تقنيات عزف موسيقى الجاز فبدأو بعازفي النحاسيات مثل “الساكس فون” و”الترومبيت” ثم باقي الفرقة على هذا المنوال، لم يكن الفرقة مقطوعات موسيقية خاصة بها فاستعان رجب ببعض المقطوعات الموسيقية التي ألفها بعض أصدقاء “جيركين” في ألمانيا.

فى خلال عام من التدريبات والبروفات ودراسة تاريخ موسيقى الجاز، كانت الفرقة قد بدأت فى عزف بعض المقطوعات البسيطة من موسيقى “السوينج” و” الديكسلاند“، أقامت الفرقة أول حفل لها فى فبراير عام 1969 في قاعة “إيوارت” التذكارية داخل الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وعزفت الفرقة عدة مؤلفات خاصة برجب و هارتموت جيركن مع بعض المقطوعات لعازفى الجاز المشاهير مثل” ديزي غيليسبي” و “كاونت باسي” وغيرهم، لاقت الفرقة انطباعات إيجابية، وعلى مدار أربع سنوات قامت الفرقة بعمل حفلات فى عدة أماكن مثل “دار الأوبرا المصرية” و”جامعة الإسكندرية” .

فى عام 1971، أرسل رجب دعوة لموسيقار الجاز الأمريكى هرمان بول بلاونت المعروف “بصن رع”  للقدوم إلى القاهرة، وبعد ستة أشهر جاء بفرقته إلى مصر حيث أقام حفلا كبيرا تحت سفح الهرم، وعاد مرة أخرى فى بداية الثمانينيات وأقام حفلا آخر، وكونا شراكة فنية حيث قام بالعزف معه فى العديد من المقطوعات التى ألفها “رجب”  مثل “مصر تتبختر” و”فجر”.

تعتبر تلك الموسيقى هى درة مؤلفات “رجب” وأغناها موسيقيًا، حيث وضحت براعته فى مزج اللحن الشعبى مع موسيقى البلوز.

إقرأ أيضا

“بعد مكاسب ظاهرية غير فعالة” لماذا زادت خسائر إسرائيل في لبنان؟

تمثل مقطوعة “رمضان فى الفضاء”  براعة “رجب” فى تصوير الجو الرمضانى واستخدامه الإيقاع الذي يستخدمه  المسحراتى مع الكورال الذى يبدو أنه صوت سماوي قادم لإيقاظ المسلمين كطقس رمضانى مميز، سرعان ما تتداخل الإيقاعات مع النحاسيات التى تبدو وكأنها أفيال تعدو فى تناغم موسيقى بديع.

مع توتر الوضع الإقليمى وقت الصراع العربي الإسرائيلي،  تعرض “رجب” للعديد من الإستجوابات الأمنية حول علاقته بأصدقائه الأجانب، ومنع من الاتصال بهم، حتى أنه تحايل على هذا المنع بتدبير لقاء داخل صحراء القاهرة للتخطيط لحفل  قادم.

بعد انتصار “أكتوبر” تفككت الفرقة وتقاعد “رجب” من الجيش المصري، وتفرغ لمشروعه الموسيقى الجديد، فقام بجولة أوروبية مع فرقة “صن رع” ، وسجل ألبومًا موسيقيًا معه بعنوان The Sun Ra Arkestra”

فى أوقات الفراغ، كان يدير “رجب” متجرًا للآلات الموسيقية باسم “مايسترو” يقع خلف منزله والذى أغلق منذ فترة طويلة، وغطت الأتربة والقمامة يافطته الذهبية التي كانت تميزه، ولكن يظل إرث رجب الحقيقى فى تسجيلاته التى جمعتها شركة “صن يارد” عام 2006 وهى مجموعة المقطوعات الموسيقية التي سجلها بين عامى 1968 و1973 وتبدو الفرقة فى أوج تألقها، وتشرح لنا مدى عبقرية هذا الرجل الذى استطاع مزج الموسيقى الشعبية المصرية بكافة ألوانها مع موسيقى الجاز . والذى قال عنه حفيده فى أحد اللقاءات “عندما يتعلق الأمر بموسيقى الجاز المصرية ، لا يوجد مكان أفضل للبدء منه سوى  موسيقى “صلاح رجب “