طه حسين و نقطة التحول الكبرى في حياة درية شفيق
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
خرجت درية شفيق من الإسكندرية إلى باريس وهي ابنة التاسعة عشرة عامًا متمردة على العادات والتقاليد.. على أحزانها، متمردة على فقدها ويأسها نحو عالم آخر نحو تحصيل العلم ولا شيء آخر غير تحصيل العلم.
نحن على نقطة التحول الكبرى التي تمثل عبور من لحظة إلى أخرى من تاريخها واستبدال واقع بواقع آخر جديد ( درية شفيق)
انطلقت” درية شفيق” نحو عالم آخر مع مجموعة الفتيات الطموحات إلى استكمال الدراسات العالية في السوربون، فبدلًا من توجه هؤلاء الفتيات إلى انجلترا لدراسة الموضوعات التقليدية ـ ذلك الوقت ـ من بينها الجغرافيا والاقتصاد المنزلي ودراسة الطب. صحيح أن أي تعليم يفيد المرأة ، لكن درية استكملت سلسلة التمرد الحر واختارت أن تدرس الفلسفة الشيء المحرم على المرأة حينها. وتصف “درية ” هذه الرحلة في مذكراتها وتقول:” في طريقي إلى فرنسا لأدرس الفلسفة “، و وصفت رفيقاتها قائلة:” عيون ذكية وروح عالية” ، ثم تصف بعض لقطات الرحلة فتقول:” أن ربيع الحياة يبتسم لي.. فلقد جرؤت على كسر التقاليد .. هربت من المشرفة البريطانية مع واحدة من رفيقاتي لنشارك في الحفل لراقص على ظهر السفينة ” .
جيل له صدى السحر
نشرت مجلة ” ليجيبسيين”( المصرية) صورة لدرية شفيق في الصفحة الأولى عدد سبتمبر 1928م، فكانت هذه الصورة بمثابة الصدى الذي استكمل خطابها؛ ذلك الذي ألقته في إحياء ذكرى “قاسم أمين” وكان فاتحة خير عليها فهو من أمن لها بعثة على نفقة الدولة لاستكمال الدراسة ، كما كانت الصورة رسالة واضحة للجمهور المصري بظهور جيل جديد من الشابات بزعامة” درية” وغيرها يحقق حلم “قاسم أمين” .
صورة الجمال
بعد وصول “درية” ورفيقاتها إلى “مارسيليا” انبهرت بالجو المحيط، فالجو ما هو إلا صورة رومانسية شاعرية خاطبت وجدانها وذاتيتها فانبهرت بالريف الفرنسي رغم إحساسها بالقيد فتقول:” رأيت الجبال للمرة الأولى وانبهرت بخضرتها الجميلة و شموخها الذي أحسسني بالمنتهى . شعرت مرة أخرى بذلك الحس الجمالي الحاد الذي غمرني عندما رأيت البحر أول مرة . كم كانت لهفتي للوصول إلى مدينة النور ، حتى أن القطار بدا وكأنه يزحف زحفًا” .
ورغم كل تلك الأحاسيس والمشاعر الجمالية التي انتابتها إلى أن شعور الإحباط ظل مرافقًا لها ذلك أنها تركت القيود والتقاليد في مصر لتكون فيها في فرنسا، وأحست ذلك حينما استقبلها سكرتير المكتب المصري للبعثات في باريس، فتقول:” سجان آخر!.غمرني إحساس حاد بالرغبة في الانفصال تمامًا عن الماضي. لكني كنت أعرف أن هذا محال!”.
بعد أن استلمها سكرتير المكتب المصري للبعثات في فرنسا، قرر أنه من الأفضل لدرية أن تعيش مع أسرة فرنسية تملك ” بنسيون” ، فصحبها السكرتير إلى حي “اوتوى” حيث البنسيون فتقول عن تلك الرحلة القصيرة:” ظل يحكي لي قصصًا ليخفف من توتري. وكان يضحك وحده بين الحين والحين فأشاركه الضحك تأدبًا ، ولكني تمنيت أن أكون وحدي لأتذوق تلك اللحظة الهامة في حياتي. لحظة لقائي الأول بباريس في الفجر . كان الصمت يلف الشوارع المطر الخفيف يتساقط وكأنه آلاف القبلات الخفيفة على خدودي”.
وصلت ” درية ” واستقبلتها صاحبة البنسيون، وهي أمرأة أرملة قد أسست هذا المكان ليعينها في تربية أولادها، عاشت ” درية” مع هذه الأسرة مدة شهرين وفي كل ليلة ينضم إلى الأسرة الأصدقاء من بينهم شاعر فرنسي كان يدرس في السوربون، وسرعان ما نمت بينه و بين ” درية” جاذبية متبادلة وحول هذا الانجذاب تقول:” شعرت في موقفه الشاعري من الحياة بصدى لأحلامي، فسطع في قلبي شعاع من الأمل في أن نتصالح أنا والحياة يومًا. وكان اهتمام الشاعر بي واضحًا فسعدت لذلك، لكن سعادتي كان يشوبها الخوف الرهيب من أن يصل ذلك إلى أسماع المدير . ومع ذلك فمَا هي الصلة بين البنسيون ومدير المكتب؟ حاولت أن أتغلب على مخاوفي”.
تحدي السلطة
لم تكن كل مجالات التعلم متاحة للمرأة في البعثات العلمية، فكانت هناك مقررات محددة لهنّ من قبل وزارة التعليم، ولمّا قابلت” درية ” مدير المكتب المصري للبعثات في باريس واجهت مشكلة أخرى لعلها هي الأهم منذ أن وطئت قدماه باريس.
وتتمثل مشكلة ” درية” أن المدير طلب منها اختيار فرع من فروع التربية النسوية المقرر دراستها، ولكنها لم تكن تحب الجغرافيا ولا التاريخ فبأي قابلية ستدرس شيء لا تحبه لمجرد أنه فُرض عليها فهذه المقررات من وجهة نظر الحكومة المصرية هما الأصلح للمرأة.
واجهت ” درية” المدير بكرهها للجغرافيا علق قائلًا:” وما هي الموضوعات التي لا تكرهينها ؟” وأجابت ” درية” متحدية :” الفلسفة”. فردّ عليها قائلًا :” المسألة ليست ما تحبين وما تكرهين فالقرار قرار الحكومة، ولا نستطيع أن نعدل من أوامر الوزير”.
كتبت “درية” فيمَا بعد تصف هذا الموقف :” فهمت من ابتسامته وأسلوبه الزئبقي أنه لن يفعل شيئا ليساعدني “. خرجت درية من مكتب المدير، وقد عزمت على دراسة الفلسفة بأي شكل ، فلم تقطع كل هذه المراحل لتستسلم !: “سأدرس ما أريد وإلا فلا!”.
بين درية شفيق وطه حسين
فكرت ” درية ” في مساعدة حتى تحول مسار دراستها من الجغرافيا إلى الفلسفة، ووجدت أنه من غير اللائق أن تطلب من ” هدى شعراوي” مساعدة أخرى. فرأت أن تُجرب وترسل خطابًا إلى ” طه حسين” عميد كلية الآداب في ذلك الوقت تناشده المساعدة، فقد رأت “درية” أنه سيقف إلى جوارها خاصة وأنه في عام 1928م سمح للطالبات الالتحاق بالكلية.
بعد أيام قليلة وصل خطابًا من وزارة التعليم بالقاهرة إلى مدير مكتب البعثات بباريس فيه بأن يغير برنامج دراسة” درية” حسب رغبتها وحول هذا تقول ” درية” انتصرت، ولكني دفعت الثمن غاليًا، إذ أصبح المدير عدوًا”. نجحت درية في تحقيق حُلم من أعز أحلامها ، وسجلت اسمها في غضون أسبوع في قسم الفلسفة.
صعدت الدرج وكلي حماس، ومررت تحت برج الساعة بالسوربون فدخلت البهو الكبير بمدرجاته. تصورت غموض كاتدرائيات العصور الوسطى ورأيت فكر السوربون مختلطًا بعظمة الفنون الدينية الماضية . دخلت السوربون وكأني أدخل حرما مقدسًا .. أخيرًا جئت إلى السوربون والتحقت بقسم الفلسفة !( درية شفيق)
الموسيقى
أحبت ” درية” الموسيقى الفرنسية فتشجعت وعقدت العزم على تعلمها، فبدأت بالعزف على البيانو وكانت لها تجارب في طفولتها لكنها بسيطة، ورأت أن تكمل ما بدأته صغيره على البيانو فهو مثل لها الجمال في أبهى صوره ، كما دأبت على شراء موسيقى ” روبرت شومان” فكان يمثل لها الشاعرية المطلقة التي مزجتها فيمَا بعد في صياغة الشعر.
استكملت ” درية” دراستها بعد عودة رفيقاتها من الإجازة الصيفية، ولم تكن ” درية ” تفضل العيش معهن، ولكنّ أُجبرت على ترك البنسيون والعيش معهنّ حتى باتت تشعر بالوحدة والاكتئاب والانعزال التام عنهنّ، وقد عكفت ” درية ” على دراسة تجد فيها السلوان فبدأت في دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع والأمراض العقلية، كما درست ” درية” علم الجمال ، وخلال دراستها المتنوعة والمغايرة لصديقاتها المصريات، تعرفت درية على مجموعة فتيات أخريات من روسيا البيضاء ووجدت فيهنّ الألفة خاصة مع التقارب الثقافي بينهما.
رحلة ” درية شفيق” مع السوربون طويلة ومليئة بالأحداث، لكن أبرز ما قد تعرفت فيه “درية” على نفسها هي كونها أديبة وشاعرة فريدة، وسنتعرف على تلك الشاعرية في مقال لاحق .
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال