همتك نعدل الكفة
113   مشاهدة  

عائشة الحرانية.. المُحدثة التي جمعت بين الدين والدنيا

عائشة الحرانية


لم تقتصر النساء مدى الأزمان على دورهن في تربية الأبناء وطاعة الأزواج فقط على الرغم من عِظم هذا الدور لكنهن تمكن من مزاحمة الرجال بقوة في شتى الميادين، وحتى بعد مجيء الإسلام فهو لم يُحجم دور المرأة كما زعم البعض بل إنه رفع قدرها وحدد لها بعض الضوابط الشرعية لتُحصنها من الفتن قدر المستطاع، وهذه الضوابط لم تكن بمثابة قيد للمرأة بتاتًا ولم تجعلها أسيرة منزلها بل إن الكثير من النساء لمَعن في مجالاتٍ شتى كالطب والتجارة والصناعة وامتد عطائهن إلى ميدان العلم كـ “عائشة الحرانية” محور حديثنا في هذه المقالة.

هناك من المسلمات من كن شعلات نور يُستضاء بها في عصور الجهل منذ عهد الصحابيات إلى التابعيات ومن سفلن، فكان منهن العالمات والفقيهات والمحدثات وكان يُقام لهن مجالس العلم ليُعلمن مقاصد الشريعة الإسلامية و يروين الحديث أو يُفتين في أمور الدين والدنيا.

لذا فقد اهتم المؤلفون لكتب التراجم والطبقات بذكر سيرهن في أبواب خاصة؛ حتى تتلمذ على أيديهن الكثير حتى الرجال وسمَّع عليهن مَن باتوا ذوو شأن كبير كالرحالة “ابن بطوطة” الذي حكى أنه في إحدى رحلاته زار المسجد الأموي بدمشق، وسمع على عدد من كبار المحدثات آنذاك منهن “عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية”، حيث كان لها مجلس علم بالمسجد فقرأ عليها عددًا من الكتب فأجازته، والحرانية مأخوذة من مدينة “حران” الكردستانية فأصولها تعود لهذه المدينة، وقد تمكنت من الجمع بين الدين بتدريس علوم الحديث إلى جانب تكسبها من الخياطة من أجل السعي لتوفير سبل العيش.

 

وكان “شمس الدين الذهبي” قد ذكرها في تراجمه أكثر من مرة ففي كتابه “معجم الشيوخ الكبير للذهبي”، قال: “عَائِشَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ سَلامَةَ أُخْتُ مَحَاسِنَ الْحَرَّانِيَّةِ، امْرَأَةٌ مُبَارَكَةٌ مُتَعَفِّفَةٌ بِأَجْزَاءٍ، سَمِعَتْ مِنَ الرَّشِيدِ الْعِرَاقِيِّ، وَالْبَلْخِيِّ، وَالْيَلْدَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلِيل، مَوْلِدُهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّ مِائَةٍ، وَهِيَ أُخْتُ الطَّالِبِ مَحَاسِنَ، رَوَتِ الْكَثِيرَ، تُوُفِّيَتْ فِي ثَانِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ.
قَرَأْتُ عَلَى أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَأَنَا فِي الْخَامِسَةِ، عَنْ شُهْدَةَ بِنْتِ أَبِي نَصْرٍ، وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَافِظِ، بِنَابُلْسَ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُدَامَةَ، سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مِائَةٍ، أنا أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَادَرَائِيُّ، بِقِرَاءَتِي سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ، بِبَغْدَادَ، قَالا: أنا طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، أنا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عَقَلَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ “قُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: “وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ” ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا صَالِحُ الإِسْنَادِ ثَابِتُ الأَصْلِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وَمِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ كِلاهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ، حَدِيثُ شُعْبَةَ، وَجَرِيرٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، وَهُمَا أَحْفَظُ مِنِ ابْنِ عَيَّاشٍ، فَإِنَّهُ عُمِّرَ وَسَاءَ حِفْظُهُ لِلْحَدِيثِ”. (١)

 

وذكرها “الذهبي” أيضًا في كتابه “العبر في خبر من غبر” في لفتة سريعة دونما تفصيل قائلًا: “وماتت عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية أخت محاسن، في شوال عن تسعين سنة، روت عن العراقي، والبلخي حضوراً، وعن اليلداني، ومحمد ابن عبد الهادي، وتفردت”. (٢)

وقد اقتبس ابن طولون هذه اللفتة بنفس الصيغة في كتابه “القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية” قائلًا “رأيت في العبر الذهبي: وماتت عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية.. إلخ”.

دون أي زيادة أو نقصان قال “ابن العماد الحنبلي” في كتابه “شذرات الذهب في أخبار من ذهب” “وفيها عائشة بنت محمد بن المسلم الحرّانية، أخت محاسن، روت عن العراقي، والبلخي حضورًا، وعن اليلداني، ومحمد بن عبد الهادي. وتفرّدت.وتوفيت في شوال عن تسعين سنة”. (٣)

أما عن “ابن حجر العسقلاني” فقد ترجم لـ170 محدثة في كتابه “الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة” منهن 54 شيخة له، وكان من بينهن “عَائِشَة بنت مُحَمَّد بن الْمُسلم الحرانية ولدت سنة ٦٤٧ وسمعها أَخُوهَا فى الْخَامِسَة من إِسْمَاعِيل بن الْعِرَاقِيّ وَفَرح الْقُرْطُبِيّ وَمُحَمّد بن أبي بكر الْبَلْخِي واليلداني وَإِبْرَاهِيم بن خَلِيل فِي آخَرين وَهِي أُخْت الْمُحدث محَاسِن وَحدثت بالكثير وتفردت بأجزاء وَكَانَت تتكسب بالخياطة قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَت خيرة قانعة مَاتَت فِي شَوَّال سنة ٧٣٦”. (٤)

وفي تراجم علماء الحديث بكتاب “الوافي بالوفيات” تأليف “صلاح الدين خليل ابن ايبك الصفدي” ذكر ” (أُخْت محَاسِن) عَائِشَة بنت مُحَمَّد بن مُسلم الحرانية، الصَّالِحَة، الشيخة المعمرة أم عبد الله أُخْت الْمُحدث محَاسِن، ولدت سنة سبع وَأَرْبَعين وسمعها أَخُوهَا فِي الْخَامِسَة، وَبعد ذَلِك من الرشيد الْعِرَاقِيّ وَمُحَمّد بن عبد الْهَادِي واليلداني وَابْن خَلِيل وَفَرح الْقُرْطُبِيّ والبلخي وَابْن عبد الدَّائِم والعماد وَعبد الحميد وتفردت، وروت جملَة صَالِحَة وَكَانَت خيرة قانعة فقيرة تعْمل فِي الحياكة، سمع مِنْهَا أَبُو هُرَيْرَة ابْن الشَّيْخ شمس الدّين وَأَوْلَاد الْمُحب والطلبة، وقاربت التسعين رَوَت فَضَائِل الْأَوْقَات للبيهقي عَن ابْن خَلِيل وَخرج لَهَا ابْن سعد وَأول حُضُورهَا فِي الرَّابِعَة فِي شعْبَان سنة خمسين، وَتوفيت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة”. (٥)

ومن الكتاب المعاصرين في القرن العشرين، المؤرخ الموسوعي”عمر رضا كحالة” وذكر في العديد من مؤلفاته منها كتاب “معجم المؤلفين” ” عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية، (647 – 736 ه‍) (1249 – 1336 م) محدثة، روت عن اليلداني ومحمد بن عبد الهادي وابن عبد الدائم وغيرهم، وحدثت بالكثير وتفردت بأجزاء، وسمع ابن بطوطة عليها في جامع بني أمية بدمشق، وكانت تتكسب بالخياطة، وتوفيت في شوال، لها مشيخة”. (٦)

واستفاض “عمر كحالة” في كتابه “أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام” عن “عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية” (٧)

عائشة الحرانية
سيرة عائشة الحرانية في كتاب “أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام”

توفت “عائشة الحرانية” سنة ست وثلاثين وسبع مائة وهي تبلغ من العمر ما يقرب من 90 عامًا لذا فقد أشار إليها المؤرخ والباحث المتصوفة “عبدالله بن أسعد اليافعي” في كتابه “مرآة الجنان وعبرة اليقظان” في أحداث فصل مسمى بهذا العام فقال: “وفيها ماتت عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية عن تسعين سنة، روت حضوراً وسماعاً عن جماعة وتفردت”. (٨)

ونشر الأزهر الشريف على موقعه الرسمي مقتطف من سيرة “عائشة الحرانية”، وذكر أن اسمها عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية، ولدت عام 647 هجريًا، وهي شيخة صالحة مباركة خيرة مسندة، حضرت على بعض المشايخ سنة 650هـ، وسمعت “صحيح مسلم” و “اليقين” لابن أبي الدنيا و “الذكر” لجعفر الفريابي وغير ذلك من الاجزاء والكتب، وتفردت وروت الكثير، وسمع منها الحافظ المزي والحافظ الذهبي والحافظ البرزالي.

عائشة الحرانية

ومن بالغ تقدير الذهبي لأمثال هؤلاء المجاهدات في سبيل العلم وكذلك شيخاته ذكرهن مادحًا إياهن في أحد كتبه وهو “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” الذي اختتمه بباب أسماه “فصل في النسوة المجهولات” مبتدءً إياه بجملة في غاية الروعة قائلًا “وما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها” أي لم يُعهد على هؤلاء العالمات والمحدثات كذب ولا تدليس ولم يرد قدح في رواية إحداهن ليتم تجنيب أحاديثها بغية الحرص على الصدق في كل ما هو وارد عن النبي -صل الله عليه وسلم-.

وعلى الرغم من علمهن الذي استنارت به الألباب في الكثير من العصور لكنه مع مرور الأزمان ومع وفاة أولي العلم القويم اندثر ذكرهن وباتت أسماؤهن منسية بين صفحات أمهات الكتب لكن آن الأوان أن نستذكر سير هؤلاء حتى تكون حجة قوية لدحض أقوال الزاعمين بأن المرأة في الإسلام ما هي إلا خادمة في بيت زوجها، وبرهانًا قاطعًا في وجه الحملات المنادية بأن تكون النساء حبيسة المطابخ لإطعام أسرتها وفقط، المرأة كانت ولا زالت تستطيع أن تصبح من الرائدات النيرات اللاتي يقدمن للمجتمع الكثير.

 

١- معجم الشيوخ الكبير للذهبي، المجلد الثاني، فصل حرف العين، ص٩٤:٩٣.

إقرأ أيضا
دايما في الليل

٢- كتاب العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي، الجزء الرابع ذيول العبر، فصل سنة ست وثلاثين وسبعمائة، ص١٠٥.

٣- كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، المجلد الثامن، فصل سنة ست وثلاثين وسبعمائة، ص٩٩.

٤- كتاب الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، الجزء الثالث، فصل حرف العين المهملة، ص٥.

٥- كتاب الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل ابن ايبك الصفدي، المجلد ١٦.

٦- معجم المؤلفين، عمر كحالة، الجزء الخامس، ص٥٧.

٧- أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، عمر رضا كحالة، المجلد الثالث، ص١٨٩.

٨- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، اليافعي، الجزء الرابع، فصل سنة ست وثلاثين وسبع مائة، ص٢١٩.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان