عم فكري واهب الحب

كان الوقت المحبب لقلبي (العصرية)، فقبل انتظاري لقدوم عم فكري أستحم وأرتدي فستانا منفوشًا قصيرًا فوق ركبتي وتمشط أمي شعري الفاحم على أنغام أم كلثوم وهي تصدح بأحد روائعها في الراديو، أنتظر بلهفة زمارة مميزة يليها الكثير من التهليل والنداءات، تتسع عيني وأصرخ بفرحة حين أسمعها وأهرول نحو الباب وأنا أنادي: يا عم فكري.

لم أكن أهتم أن أتذكر أخذ النقود من أمي؛ فقد كان عم فكري يعطي الجيلاتي لكل الأطفال من دفع منهم ومن لم يدفع، كانت عربته البيضاء المزينة بألوان مبهجة والمرسوم عليها طفلة تمسك الجيلاتي الملون بالنسبة لنا عربة نزلت من الجنة لتوزع علينا مكافئات لأخلاقنا الحسنة وإتمام حفظنا لسور القرآن الكريم.

لم نكن كأطفال الغرب قلوبنا متعلقة بسانتا وغزلانه، بل كان العم فكري هو سانتا منطقتنا.
كان أبي أحيانا يعطيه عشرة أو عشرون جنيها دفعة واحدة -وكان وقتها هذا مبلغ كبير- لئلا يعطينا الجيلاتي مجانا إذا ما هرولنا أنا وأخوتي دون أخذ المال وحينها يبتسم العم فكري متحديا أبي قائلا: الباشمهندس عازمكم كلكم النهاردة يا ولاد محدش يدفع فلوس، فيهلل الأطفال ويضعون البريزة في جيوبهم ليوفروها لشراء شيئا آخر غير الحب المجاني الذي يوزعه العم فكري.

سألته مرة وأنا أركب العجلة التي تجر العربة وكان وقتها شابا قارب على الثلاثين هل لديك أبناء يا عم فكرى ؟ ابتسم بقلب راض كلكم أولادي، لم أفهم حينها، وإلى الآن لا أعرف قصته.

يقول البعض أنه كان له ولد واحد مريض طلب منه أن يأكل جيلاتي وذهب ليحضره وعندما عاد وجده قد فارق الحياة، ويقول البعض أن زوجته توفت وهي حامل بولده ولم يتزوج بعدها، ويقول البعض الاخر أنه لم ينجب أبدا.

وبعد ما يقارب العشرين عاما كنت أسير في أحد شوارع حيّنا وقد أصبحت مدموزيل هادئة وخجولة، رأيت أطفالا تهلل حول عربة جيلاتي؛ فابتسمت حين مرت أمامي كل مشاهد وذكريات طفولتي وقولت: فينك يا عم فكرى، وكانت صدمتي وفرحتي أنه هو بعينه العم فكرى يفعل ما عهدته الطفولة منه في كل زمان ومكان.

يكرس حياته وعربته لإدخال السرور على القلوب الخضراء حديثة العهد بربها.
فسلام عليك ومحبة صادقة من قلوبنا يا عم فكري أينما كنت وأينما حللت.