عندما هاجرت الطيور إلى القمر
-
طاهرة توفيق
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أقنع الفيلم الكلاسيكي التسعيني المذهل بقصته ”البط القوي“ عقول وأجساد المراهقين آنذاك، بأن أصبح هذا البط حارس مرمى لفريق ”رولر“ للهوكي، حيث اعتاد الفريق استخدام تشكيلة ”V الطائر“ كلما وقع في مأزق، وهو الشكل الذي تشكله الطيور أثناء طيرانها -على شكل حرف(V)-.
بكل تأكيد فإن ثبات وقوة هذه التشكيلة مثبتة بطبيعة الحال عند الطيور المهاجرة، حيث يمكنها الطواف بشكل أفضل والانجراف مع الهواء عند المقدمة، اثناء رحلتها بحثاً عن الطقس الأكثر ملائمة في فصل الشتاء.
نحن نعلم الان وجهة هذه الطيور المهاجرة، ولكن أجدادنا عانوا بكل تأكيد لمعرفة أين تختفي الطيور في كل شتاء.
سادت العديد من التكهنات لتفسير هذه الظاهرة، ولكن أكثرها غرابة تلك التي وضعها القس والعالم ”تشارلز مورتون“ في القرن السابع عشر، وطرحها في بحث معللٍ جيداً ولكن بشكل غير دقيق نسبيا، ومفادها أن الطيور تهاجر إلى القمر كل سنة، ثم تعود إلى الأرض.
أجل! إلى القمر وثم إلى الأرض، فلقد كان مورتون مدركاً ملحميةَ وصعوبةَ هذه الرحلة، حيث قدّر المسافة التي تقطعها الطيور في اتجاه واحد بحوالي 290,000 كيلومتر (لم يكن مخطئاً بتقديره إلى حد كبير، لأن المسافة بين القمر والأرض تتراوح بين 360,000 إلى 405,000 كلم، آخذين بالاعتبار المدار الإهليلجي للقمر)، كما قدر زمن الرحلة بحوال ستين يوماً بافتراض أن الطيور تحلق بسرعة 200 كلم في الساعة، مبرهناً فرضيته بأن بعض أنواع الطيور اختفت كلياً، فكان السبب المنطقي الوحيد برأيه لهذه الظاهرة أنها تاهت في الفضاء الخارجي، طارحاً السؤال: ”إن لم تذهب هذه المخلوقات إلى القمر، فإلى أين؟“
قبل أن نتطرق إلى تفاصيل نظرية مورتون العجيبة حول هجرة الطيور، تجدر الإشارة إلى أن هناك نظريات قديمة أخرى أكثر غرابة، بدءاً من أرسطو الذي اعتبر أن بعض الطيور تدخل في سبات، بينما تتحول طيور أخرى إلى أنواع مختلفة مغايرة لصنفها بحلول فصل الشتاء. فعلى سبيل المثال، يتحول طائر الحميراء (Redstone) إلى الروبنز (Robbins).
كتب مُنظِّر المذهب الفلسفي الطبيعي ”بليني الأكبر“ -لاحقاً- عن الأقزام، وهي سلالة البشر قصيري القامة في إفريقيا، والذين يخوضون معركة أزلية مع طائر الغرنوق، ”تمتطي المجموعة بأكملها الحملان وإناث الماعز متسلحة بالسهام وقاصدة البحر في مجموعة واحدة لتتغذى على فراخ وبيوض طائر الغرنوق، في رحلة تستغرق ثلاثة أشهر“.
وهذا انعكاس لما ذكره هوميروس في الإلياذة عن طيور الغرنوق، حيث وصفهم بالعصافير التي تهاجر بكل تأكيد من أوروبا إلى افريقيا، فقال ”زعقة لعصافير الغرنوق من السماء التي تفر من الشتاء والأمطار الرهيبة محلقة إلى نهاية العالم وجالبة الموت والهلاك على الرجال الأقزام، مستهلة معركة شعواء عند الفجر“.
تضمنت بعض الموسوعات المتخصصة بأنواع الحيوانات الخرافية والحقيقية منها في العصور الوسطى بين الحين والآخر عدداً من الحقائق التي تناولت غالباً طيور الإوز البحري على أنها طيور تولد من الأشجار النامية على الماء، حيث كان ذلك تفسيراً مقنعاً لظهور الإوز بشكل مفاجئ وخاصة بعد فترة من هجرتها واختفائها، ومن جهة أخرى، تجدر الاشارة إلى الدور الذي تلعبه بعض العادات الدينية في دعم هذه الخرافة، حيث نجد على سبيل المثال أن الكاثوليكيين يمتنعون عن تناول اللحوم يوم الجمعة باستثناء لحوم الأسماك.
كتب ”جيرالد أوف ويلز“ في عام 1187، ”في بعض مناطق ايرلندا، قام أساقفة ورجال الدين بجعل تناول هذه الطيور محللاً في أيام الصيام لاعتبارهم لها بأنها ليست لحماً، فهي ولدت من الأشجار“ وعليه فهي نباتات. (نفس المنطق تم تطبيقه على القنادس ولكن بشكل مختلف، حيث يفترض أن مذاق الذيل مشابه لمذاق السمك، فضلاً عن الخنازير العملاقة في أميركا الجنوبية التي كانت تقضي الكثير من الوقت في المستنقعات المجاورة للكنيسة، حيث تعالت أصوات البعض لتصنيفها على أنها مشابهة للسمك أيضاً).
في القرن السادس عشر، قام رسام الخرائط والكاتب الشهير ”أولوس ماغنوس“ بتأييد ودعم النظرية التي كشفت سر اختفاء الطيور في الشتاء، بأنها لا تسافر إلى المناطق الاستوائية لالتقاط جوز الهند، بل لدفن نفسها بالطين في قاع الأنهار، ومن ثم تعود أدراجها في فصل الخريف لتدفن نفسها بشكل جماعي مرة أخرى، لتعاود الظهور في فصل الربيع. وكما كان موضحاً في خريطته الشهيرة ”كارتا مارينا“، علل ماغنوس قصة الإوز البحري عن طريق صورة توضيحية مشيرة إلى بطة تولد من شجرة.
بالعودة إلى نظرية ”مورتون“، ووفقاً لما ذكره ”توماس هاريسون“ في مقالته ”طيور في القمر“، أشار مورتون إلى أنّ ”الطيور المهاجرة تكون في الحقيقة مدركة لما تواجهه من تغيرات مناخية وتقلبات في موارد الغذاء“. وأضاف: ”في ظل هذه الاضطرابات، فإن الطيور تتكيف وتخلق نوعاً من التوازن لتأمين ما هو مناسب لها، بما في ذلك الأخطار المحدقة بها“ شاقةً طريقها إلى القمر.
من جانبٍ آخر، قام هاريسون بدحض نظرية ”أولوس ماغنوس“ واعتقاده بأن الطيور تدفن نفسها في الطين، معللاً ذلك بقوله: ”هناك مشكلة جسيمة متمثلة بنقص الهواء أو حتى انعدامه، ناهيك عن درجات الحرارة المنخفضة“.
عوضاً عن ذلك، ولأنه لم يكن باستطاعة أحد معرفة وجهة كل طائر، فمن المؤكد أنها غادرت الأرض محلّقة إلى القمر، وإلا فما سبب قول البحارة عن هبوط طيور ”الوودكوك“ عمودياً عوضاً عن قدومها من نقطة الأفق عندما تحط على سفنهم؟ لذلك فمن المحتم أنّها تعود إلى الأرض من الفضاء الخارجي.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف بإمكان هذه الطيور شق طريق رحلتها ذهاباً واياباً بين الكواكب والأجرام السماوية؟ يوضّح هاريسون الإجابة بقوله: ”من حسن حظ الطيور غياب مقاومة الهواء في الفضاء الخارجي، إضافة إلى انعدام الجاذبية هناك“، مضيفاً: ”أضف إلى ذلك كون الطيور معززة بفائض من الشحوم أثناء الهجرة“ (الأمر الذي تبين أنه صحيح بالفعل)، ”حيث تنام الطيور معظم فترة هجرتها والتي تستغرق مدة شهرين“. (بالتأكيد هذا ليس صحيحاً، رغم أن الطيور تغفل لوهلة قصيرة لا تتجاوز ثواني معدودة من حين إلى آخر خلال رحلتها الطويلة والشاقة).
لكن من المهم ذِكر أن العديد من الاعتقادات الخاطئة كانت منتشرة بشكل واسع في زمن مورتون، وأبرزها أن الكواكب والأقمار في مجموعتنا الشمسية كانت مأهولة بالسكان، فليس من المعقول أن الآله قد تكبل عناء خلق هذه الكواكب وتركها هناك بلا عمل أو فائدة، ومن ناحية أخرى، فقد ذهب ”ويليام هيرشيل“، وهو مكتشف كوكب أورانوس، بخياله بعيداً في عام 1795 مدعياً أن هناك حياة على الشمس، وفي وقت لاحق من أوائل القرن الماضي، أدّعى الفلكي الأميركي ”بيرسيفال لويل“ أنّه اكتشف بعض القنوات التي تم بناؤها من قبل الكائنات الفضائية على سطح المريخ، الأمر الذي تبين بعد ذلك على أنه مجرد وهم بصري لا أكثر.
وفقا لنظرية مورتون، وطبقا لهاريسون، فانّ القمر بمائه وهوائه ونباته سيحقق حياتاً رغيدة وعيشة هنيئة لهذه الطيور.
كان ”جون ويكينز“، مؤسس الجمعية الملكية الشهيرة، هو مصدر إلهام مورتون، حيث كان قد نشر في مقال له عام 1638 بعنوان ”العالم الجديد المكتشَف على سطح القمر“، قائلاً: ”إنّ القمر بضوئه الباهر المستمد من الشمس، بمثابة أرضنا ببحارها وجداولها وجبالها وكافة تفاصيلها“، إضافة إلى اقتراحه أنّه لربما بإمكان البشر الصعود إلى القمر من خلال ربط أجنحة على أذرعهم، أو بمساعدة الطيور وتدريبها على التحليق بهم إلى هناك.
بدوره، قام الكاتب ”فرانسيس غودوين“ بعد خمسة أشهر فقط من نشر مقال ويكينز، بنشر قصة ”دومينغو غونزاليس المغامر“ الذي حقق إنجازاً مبهرا من خلال تدريب خمسة وعشرين طائرا من طيور البجع لتحلق به قليلاً في الأرجاء، قائلاً: ”وبكل وجل وذهول لا يمكن وصفهما، بدأت الطيور بالتحليق عالياً، أعلى وأعلى وأعلى حتى تثاقلت بي الحبال، جارّة بجسدي عالياً، قابعاً بمكاني بلا حراك وكأنني بوزن الريشة“.
كان كل طائر في طريق رحلتها إلى القمر، وعند وصولها إلى وجهتها المقصودة، لفتت أنظار دومينغو الأشجار الضخمة، والتي كانت بثلاثة أضعاف طول أشجار الأرض وبخمسة أضعاف عرضها، ولكن الأهم من ذلك، هو وجود حياة برية رائعة لم يرى مثلها قط، ولا تقارن بمثيلتها على الأرض ”باستثناء طيور السنونو، والبلابل، والكوكاوس، والوودكوك، والخفافيش وبعض الطيور البرية الأخرى، التي تقضي وقتها بعيداً عن أنظارنا في ذلك العالم الخيالي.
وفي أوائل القرن السابع عشر ارتقى هذا الخيال وصعد إلى مرتبة العلم، وحققت بذلك نظرية مورتون -الذي ذاع صيته- انتشاراً واسعاً وتأثيراً كبيراً عمّ جميع أرجاء المعمورة.
استمر الأمر على هذا النحو إلى غاية ظهور رجل عام 1676 يدعى ”فرانسيس ويلوغباي“، مغيّراً مسار جميع الاعتقادات السائدة حول اختفاء الطيور في فصل الشتاء من خلال تحفته النفيسة وكتابه العظيم في مجال علم الطيور بعنوان: ”الأونيثولوجيا“، الذي يمكن وضعه في مصاف الأعمال الكلاسيكية المُؤثِّرة ككتاب ”طيور أميركا“ لمؤلفه جون جيمس أودوبن.
اتبع ويلوغباي ومورتون نفس المبدأ بدحضهم لفكرة أرسطو المتمثلة بسبات طيور السنونو خلال فصل الشتاء، لكنّه رفض فكرة هجرة كل طائر إلى القمر، حيث فسّر ويلوغباي سر اختفاء الطيور خلال الشتاء بهجرتها إلى المناطق الدافئة في شمال إفريقيا بكل بساطة.
واليوم نحن على يقين أن فراغ الفضاء قاتلٌ لأي كائن على هذه الأرض باستثناء الدب المائي شديد البأس، ناهيك عن أن السرعة المطلوبة للتملص من جاذبية الأرض تقدر بحوالي 40,000 كلم في الساعة، وهي سرعة لا يمكن للطيور تحقيقها بدون صواريخ مربوطة على ظهورها.
غير أن استقصاء مورتون كان واحداً من سلسلة طويلة من المحاولات التي نجحت في نهاية الأمر في فك لغز هجرة كل طائر واختفائها.
الكاتب
-
طاهرة توفيق
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال