عن جارة القمر “فيروز” ورحلة النزول إلي الأرض
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يحكي زياد موقف طريفًا مع والده وكان لازال مراهقًا بعمر الأربعة عشر عامًا، وقتها كان يتشكل وعي زياد السياسي فقرر ان يساهم ببناء كتائب قتالية خاصة به تساعد الوطن، فجاء رد والده ساخرًا ” شوف بابا اليوم شتت أول شتوة وكلنا قاعدين بالبيت، شو رأيك تروح تلم بزاق “حلزون” شو بدك بالكتايب بعدك زغير لسه” ليواصل زياد جداله مع عاصي قائلًا “انا حاسس ها الشئ وهالشئ بدمي والوطن بحاجة إلي” ليثور والدة غاضبًا لاعنًا زياد والوطن بأفظع الشتائم ويأمره بالدخول إلي البيت ليمر شريط طويل أمام أعين زياد يتضمن أغاني و مسرحيات “جبال الصوان” “جسر القمر””محروسة يا غربة” “عالي الشمايل”.
هذا الحدث الجدلي الساخر يبلور لنا الموقف الذي سوف يتبناه زياد لاحقًا من فن الأخوين رحباني سواء على مستوى الأغاني العاطفية أو الوطنية، فزياد كان يرى الوطن بعيون أخرى غير التي يراها والده وعمه مع التأكيد على تأثره بفن الرحابنة في مرحلة من حياته ، لكن كان على الابن أن يتخذ مسارًا مختلفًا يصنع فيه أغنية جديدة تعزله تمامًا عن قاموس المفردات التي دأب الرحابنة الآباء تصديرها في فن فيروز.
بدأ زياد رحلته في فن فيروز من أغنية “سألوني الناس” التي صنع فيها لحنًا أوحى لنا ببزوغ شمس ملحن عتويل قادر على ان يكون إمتدادًا لمدرسة الرحابنة، تبعها بواحدة من أحلي أغنياتهم معًا “قديش كان في ناس” سرعان ما كسر زياد قاموس المفردات الرحباني الشفاف بأغنية “هدير البوسطة” في الألبوم الجدلي”وحدون” والتي غناها من قبل “جوزيف صقر” وطلبها منه والده فطلب منه مبلغًا محددًا من المال على أن لا يتم أي تعديل فيها ويوزعها زياد بنفسه فشاهدنا فيروز لأول مرة تتخلى عن قاموس مفرداتها في اغنية جدلية بمفردات مثل” “يخرب بيت عيونك” بإيقاعات موسيقية صاخبة سوف تحرك ما كان ساكنًا من قبل .
طالت الإنتقادات زياد وقتها بأنه لا يجيد التعامل مع الموسيقى الشرقية فقرر ان يتهكم بسخريته المعتاد بجعل فيروز تغني “بعتلك ياحبيب الروح” التي قال زياد عنها إنها أغنية بلا معنى، و غنتها من قبل المطربة “اَمال غلام” في مسرحية “نزل السرور” تهكمًا على المدرسة الكلاسيكية التي احيانا تصنع أغنيات بلا مضمون.
رحلة التمرد على تراث الأب.
بعد انفصال فيروز وعاصي الرحباني بدأت مرحلة جديدة في حياة فيروز الفنية كان بطلها الأوحد الابن “زياد” والذي بدأها بمغامرة ألبوم “معرفتي فيك” والذى صنعه في سنوات الحرب ورفضه منتج ألبوم فيروز متحججًا انه فيه شئ من التغريب او كما قال له “هيدا شئ لبره” سرعان ما تحمس له منتج آخر وصدر الألبوم وبرغم انه أول ألبومات زياد فعليًا مع فيروز إلا أنه كان ذروة الحدث الفني بينهما.
قوبل الألبوم باستهجان شديد من عشاق فيروز التي تغني على أنغام موسيقى الجاز ووضع زياد صوت أمه كخلفية لموسيقاه في أغنية “حبيتك” والتي استوحاها من “حبيتك بالصيف” وظهرت فيروز لأول مرة في أغنية سياسية حذرة ” راح نبقى سوا” وظهرت بعض المناوشات عن مشاكل طائفية سببتها أغنية “عودك رنان”، لكن الشاهد أن الألبوم أعلن عن ميلاد جديد لفيروز التي خلعت فيه ثوب الفتاة الرقيقة الحالمة وتناول زياد الشعري في الألبوم كان بأقل الكلمات لكن بتكثيف أكثر معلنًا مرحلة جديدة تعلن نضوج البنت وخروجها من مرحلة “إنتظارها حبيبها لكي يعلن رأيه في فستانها” إلي رفضها الكامل للعلاقة قائلة “مش أنت حبيبي” .
في شئ عم بيصير .
ياتي بعدها مرحلة مهمة أخرى “كيفك أنت” وفيها وضع زياد سلطته الكاملة على صوت فيروز فصنع الألبوم بالكامل كتابة وتلحينًا وتوزيعًا، وبدأ مرحلة أخرى في علاقة الابن بالم، ومساحات المزاح الواسعة التي ظهرت في بروفة “كيفك أنت” والتي سجلها زياد دون علم فيروز كي تبدو على طبيعتها، ثم استخدم صوتها كاّلة موسيقية ضمن الأوركسترا في “ياليلي” ثم يظهر هو في أخرها لكي يقول بصوته “ياعيني” ، بدت فيروز مع زياد اكثر اريحية فكت قيودها لكي تنطلق خلف افكار ابنها المجنونة تصنع مزيجًا لا يخلو من التجريب كما “في شئ عم بيصير” لكن منبعه الرصانة “مش فارقة معايا” ثم تعلن لأول مرة بلا خجل لحبيبها “ملا انت” الكلمة التي صدرت بعض المشكلات لهما رقابيًا.
يا أبيض يا أسود لا وجود للرمادي.
تظل تجربة “مش كاين هيك تكون” واحدة من جدليات زياد مع فيروز، قسم زياد الألبوم بينه وبين ملحن آخر “محمد محسن” المنتمي إلي مدرسة غارقة في الكلاسيكية والذي تولى تلحين قصائد الألبوم، ومارس زياد في النصف الأخر من الألبوم جنونه الشخصي بأغنيات “ضاق خلفي” والتي جعل فيروز تبدأ في مشاكسة أكثر جرأة بقولها ” مين قلك تستسهل تكذب دايمن عا مرا” و”مش كاين هيك تكون” والتي تغني فيها فيروز للصابون والينسون ” مع سخرية من أغانيها القديمة “مش سامع غنية راحوا “ ليصنع ألبومًا ذو وجهين متنافرين تمامًا حيث لا وجود منطقة وسطى فيه، مع توجيه تحية واجبة للأب الذي يردد قصيدة “جاءت معذبتي” مثلما فعل من قبل في ألبوم “اندلسيات” الصادر في الستينات.
و”لاكيف” إنطلاق القطار نحو الغرب.
انطلقت التجربة لا تكترث بالهجوم الذي طالها طيلة الألبومات السابقة ليعلن زياد مرحلة جديدة انطلق فيها نحو الغرب بالكامل في مجموعة “ولا كيف” استعان زياد ببعض الألحان الغربية ووضع عليها كلماته لكي يصنع تجربة لافتة في مشوارهما الفني.
مجموعة “ولا كيف” ترصد الإختلاف الجذري بين مدرسة الرحابنة ومدرسة زياد في كل شئ في الوقت الذى كان يخوض عاصي الرحباني معارك فنية يعلن فيها انحيازه الكامل لتوحيد النغم “المونوفونيك” وعدم إطلاق العنان للتوزيع الموسيقي وتعدد الأصوات “البولوفونيك” جاء زياد لكي يعلن انحيازه التام لعكس ما كان يتبناه والده بتجربة مدهشة على المستوى الموسيقي بتوزيعات غربية قحة “جاز” وبوسانوفا وكلاسيك روك” وإطلاق العنان للإرتجال الموسيقي المحسوب، وعلى مستوى تناول العلاقات العاطفية، ففيروز التي كانت تري ان حبها يتسع بإتساع البحر والسما أصبحت ترى في حبيبها من منظور واقعي أكثر “هي كلمة ياريت عمرها ماعملت بيت” ثم تفاجئ الجميع بغناء فيروز “صبحي الجيز” التي تخلد ذكرى موت عامل شيوعي ولأول مرة نشاهدها تعبر عن موقف سياسي واضح .
ايه في أمل “صراع بين زياد الشاعر والملحن”
بدت اسطوانه ايه في امل وكأن فيروز تحتفي بزياد كشاعر اكثر منه موسيقي ، الألبوم صدر في اثني عشر أغنية منها مقطوعتين موسيقيتين لزياد وإعادة توزيع أغنية “البنت الشلبية” و اغنية “الأرض لكم ” التي غنتها فيروز من قبل، و”بكتب اساميهن” والتي اداها الكورال المصاحب لفيروز على وقع خلافات بين الورثة على أغاني الرحابنة، ليتبقى من الألبوم سبع أغنيات كتبها ولحنها ووزعها زياد.
تأتي “ايه في أمل” تحمل على نحو غير معتاد من زياد قاموس الرحابنة التقليدي “قرميد” و” سنونو” “خبز” الكلمات نقلت الأجواء الرحبانية الخالصة وتنساب على إيقاع الفالس تشرح علاقة أوشكت على الإنتهاء تتسائل عن وجود الأمل من عدمه.
بدا زياد في بقية الألبوم متوجهًا كشاعر يشرح مواقف متعددة لحالة حب واحدة فقط، وبدت فيروز أكثر مشاكسة ومجادلة فهي تناقش وتجادل تطلب بكل هدوء ان يحترم عقلها “ماتفكر بدي انشا ومسودة كل اللي بدي صدق الكلام” ثم يتعالى صوتها مرددة ” ما بعرف كيف بتحس وما بتعرف شو عم تحس.. ما بعرف كيف بتحب وما بتعرف شو عم تحب” ثم تمارس تهديدًا غير معتاد منها ” بس شي إني رح فل رح تتندّم علي” ليصل بها الأمر إلي ذروته بقولها “اخبارك يعني كلها منيحة يومية الحمد لله في فضيحة”
مرت تجربة فيروز الفنية بعدة مراحل منذ البدايات مع حليم الرومي مرورًا بالأخوين رحباني وانتهاء بزياد الأبن، ونسبها المثقفين في الوطن العربي إليهم للتدليل على سمو اختيارهم رغم انه نفس المشروع الذي لم يخلو من الحانًا شعبية تخاطب ذائقة كافة المستمعين من كل الطبقات لكن يبدو أن الإنحياز المطلق للتجربة خلق صراع بين عشاقها للمقارنة بين فيروز القديمة والحديثة.
لكن الشاهد هو التحولات في تلك التجربة ما بين متحمس لتجربتها مع زياد ومابين من يعيش حالة نوستالجيا لأغنياتها القديمة فيروز لم تعد كما كانت في السابق على مستوى الفكر وعلى مستوى الصوت ايضًا وخرجت من إطار البنت الرقيقة الحالمة السلبية أحيانًا لتعود إلي الأرض معلنة أن البنت التي كانت التي تجلس فوق التلال تجاور القمر وتتمنى ان تعطيه لحبيبها كبرت ونضجت وأصبحت مشاكسة مجادلة تتماس مع العصر التي تعيشه مشاكله الحياتية وتقف ندًا للرجل .
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال