رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
1٬928   مشاهدة  

عن جيلي الذي عشق “دي دي” ولم يعرف معناها.

دي دي
  • ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال



(1)

يوم رأس السنة عام 1992 احتفل التليفزيون المصري بتلك المناسبة بعمل يومًا مفتوحًا على القناتين الأولى والثانية، تنوعت الاحتفالية ما بين لقاءات مع بعض المشاهير والحديث عن أمنياتهم وأحلامهم للعام الجديد، عرض فيديو كليبات منوعة لأحدث الأغاني، فقرات كوميدية أجنبية ومصرية مقتطعة من الأفلام والمسرحيات، ثم رصد اخباري ممل لأهم أحداث السنة على أن يكون ختام السهرة مع فيلم عربي شهير على القناة الأولى في العادة يكون للزعيم عادل امام، وفيلم اجنبي حائز على الأوسكار على القناة الثانية.

في ظهيرة اليوم قدمت القناة الأولى فقرة رياضية جمعت فيها أجمل الأهداف التي سجلت في الدوريات الأوروبية جمعت مادتها من قنوات اجنبية متخصصة في الرياضة، وتفتق ذهن معد الفقرة لعمل شئ مختلف فاستبدل أصوات المعلقين الأجانب بأغنية مدهشة لمطرب يغني بلهجة غريبة بها بعض الكلمات العربية “أنا بحر عليّ و انتيَ لا – ما نديرك بعيدة ما نبكي عليك  -لا زهر لا ميمون لا عرقوب زين- دي دي، دي دي” على إيقاع قوي استقر في اذني سريعة.

رجال حول الكبير (2) … “فزاع” أمين سر المزاريطة

 (2)

رغم المتعة الكبيرة التي وجدها في هذا الكم من الأهداف الملعوبة، إلا أني قررت التركيز مع المطرب الذي يغني في الخلفية،الذي دخل قلبي بصوته النحاسي اللامع فاستقر إلى الأبد، عندما انتهت الفقرة نادى على أحد الأصدقاء لإبرام اتفاق على مباراة في السهرة نتحدى فيها فريق من أحد الشوارع المجاورة.

وافق هذا اليوم يوم الخميس؛ إذن نحن أمام سهرة كروية طويلة لأن الغد أجازة رسمية، تجمع الفريق وبدأنا في وضع الخطة التي سنفوز بها على المنافس، ليقطع “مصطفى” الحديث ويأتي بسيرة أحد الأهداف التي شاهدها في الفقرة التي أذيعت منذ وقت قليل، التقط “عمار” الجملة سريعًا “سيبكم من الأجوان، سمعتوا الأغنية اللي كانت شغالة في الخلفية” حركت تلك الجملة كرة الثلج أمامنا فتركنا موضوع “خطة ماتش التحدي” وبدأنا في الحديث عنها، فهذا يحاول تذكر كلماتها، وآخر يحاول تقليد صوت المطرب وهو يغني على اللحن كلامًا غير مفهومًا، وآخر قرر الرقص وهو يدندن “ديدي ديدي واه” تلك الجملة العبثية التي لم يفهم منها شئ، ثم افتى “فاروق” بأن هذا المطرب لابد أن يكون خليجي، ينهره “خالد” ويتهمه بالجهل “دي مش لهجة خليجي انا عشت في الخليج سنتين وعارف لهجتهم كويس” ليأتي وائل فاكهة الفريق ” يادي سنتين الكويت اللي قارفنا بيهم ، ماتزعلوش نفسكم المطرب ده شكله هندي” ضحك الجميع وبدأنا في تحدي جديد لمعرفة هوية هذا المطرب في غضون 24 ساعة تبدأ من لحظتها.

 (3)

طارق يسكن في المنزل المقابل لمنزلنا، فتى مجتهد يكبرنا بسنتين أو ثلاثة على الأكثر، يعمل منذ صغره في مطبعة تقع في شارعنا، منهمك طول اليوم في عمله كانت تسليته الوحيدة وقت راحة الغذاء من الرابعة عصرًا حتى السادسة مساءً، هي جلب جهاز التسجيل الباناسونيك ذو البابين الذي اشتراه من حر ماله والحق به جهاز تويتر  كي يسمع الإيقاعات والصاجات في الأغاني بشكل اوضح، ثم يضع التسجيل في البلكونة ويقوم بتشغيل الشرائط التي صدرت حديثاً.

بحكم الجيرة وصداقته القوية مع أخي الذي يكبرني بعامين، كنت ازوره من حين لآخر، يمتلك  مكتبة ضخمة من شرائط الكاسيت، يضعها بشكل منظم في مكتبة صنعها بنفسه، هذا رف المطربين القدامى، هنا تجد شرائط مطربي موسيقى الجيل، كل شريط داخل علبته وكأننا في محل بيع شرائط الكاسيت.

كل فترة كنت استعير منه بعض الشرائط، كان يصر على أن أخذ الشريط بالعلبة، مع التنبيه بضرورة الحفاظ على الغلاف، احيانًا كان يعرض على تسجيل بعض الشرائط التي لا اجد نسخ منها أو لا استطيع شراؤها، كان فتى ضخم الجثة مقارنة بأقرانه، تحمل ملامحه بعض الوسامة، هادئ الطباع يمتلك عقلًا راجحًا لا يتناسب مع سنه، بداخله قلب مليء بالطيبة والحزن، كنت ومازلت احبه واقدره جدًا كلما التقيته صدفة أصر على الوقوف والحديث معه ، الأن كبر طارق وتزوج وأنجب ويعمل “سوبر فايزر” في إحدى شركات الأغذية. 

 (4)

لم يكن في زماننا انترنت ولا قنوات فضائية، كنت أستمع إلى الأغاني الغربية عبر نافذة برنامج العالم يغني وأثناء استراحة المباريات حيث لم يكن استوديو كابتن “متحت” الممتد إلى الفجر قد ظهر بعد.

كان السبيل المنطقي لمعرفة هوية هذا المطرب الذي يغني “ديدي” هو الذهاب الى محل كاسيت قريب من المنزل، لكن للأسف لم أجد لهذا المطرب أي وجود، كل الشرائط مصرية بالكاد تجد شريطًا أو أثنان أجنبي وهي في الغالب أغاني مجمعة “كوكتيل” أشهرها نسخ من شريط “واتس ناو” حيث كان جمهور الأغاني الغربية محدودًا في مدينتي الصغيرة.

أثناء ماتش التحدي الليلي لمحت طارق يخرج من باب المنزل الذي تقع فيه المطبعة، ناديت عليه واصريت على توقف المباراة، ثم سألته “انت سمعت الفقرة الرياضية اللي جات النهاردة في اليوم المفتوح” أجابني بأنه منهمك طول النهار في تصليح إحدى الاّلات الكاتبة، وتذكرت أنه ليس تافهًا مثلنا لا يملك رفاهية مشاهدة التليفزيون، ثم أنه بالأساس لا يهوى كرة القدم، حكيت له عن التحدي ليقطع حديثنا صراخ حارس المرمى “أخلص ياعم الماتش شغال”   ليرد طارق “روح كمل الماتش وبكره الصبح هنادي عليك تيجي تاخد حاجة من عندي” طب هي ايه “رد بسرعة وهو يدخل منزله مفاجأة”

 (5)

مرت ساعات الليل طويلة جدًا في انتظار طارق الذي حتمًا يعرف من هو المطرب، في الصباح نادى علي فذهبت مسرعًا دون أن أضع قطرة ماء على وجهي، لأجده يحمل في يده شريط كاسيت غلافه مزيج من الأحمر والبني، يتصدره صورة لشاب ينظر  إلى أعلى مبتسمًا، أسمر الملامح ذو شعر مجعد وشاربًا كثيفًا جعله يشبه الممثل الكوميدي “إبراهيم سعفان” 

“اتفضل ياعم ده المطرب اللي انت سألتني عليه اسمه خالد و بيغني حاجة اسمها راي – اسمع الشريط كويس وهتلاقي جوا الغلاف كتيب صغير فيه كلمات الاغاني بالعربي و ابقى اشتري شريط فاضي عشان اسجل لك نسخة”

دي دي
غلاف شريط الكاسيت لشريط “دي دي”

 (5)

عدت مسرعًا إلي المنزل، الكل في حالة نوم عميق، الفرصة سانحة للانفراد بجهاز الكاسيت قبل أن يعج المنزل ضجيج يوم الجمعة المعتاد استعدادًا للصلاة، بدأت في الاستماع قابلتي أغنية “ديدي” كأول أغنية في الشريط، كنت استمع وانا اتفحص الغلاف الذي كان واحد من أكبر الأغلفة التي رأيتها في حياتي، مررت على باقي الأغاني، حتى الآن لازالت تنتابني نفس المشاعر عندما استمع إلى “الغاتلي” التي وضعتها فيما بعد كنغمة للهاتف فترة طويلة، و”” Ne m’en voulez pas” التي أصبحت لا تبارح ذاكرة هاتفي ابدًا، و”وهران” التي مسخ روحها حميد الشاعري في دويتو مع المطربة داليا بعنوان” روحي”.

YouTube player

بدأت في كتابة كلمات الأغنية في ورقة وضعتها في جيبي حيث سيجتمع الفريق بعد صلاة الجمعة وبالتالي سأكون أنا الفائز بالتحدي.

بعد صلاة الجمعة اخرجت الورقة من جيبي “اتفضلوا يا أوباش دي كلمات الأغنية اللي سمعناها امبارح والمطرب اسمه خالد يغني نوع مزيكا اسمه راي”

كان اكتشاف الشاب خالد بالنسبة لي أهم من اكتشاف كولومبس لأمريكا، تخاطف الفتيان الورقة، وبدأت المشاجرات لمن يأخذ الكلمات كي يكتبها، ثم سألني “عمار” مش جايز تكون بتشتغلنا وانت اللي مألف الكلمات دي، يمر طارق من أمامنا، يلقي علينا السلام ادعوه لمشاركتنا الوقفة ثم أحكى لهم القصة وأن طارق هو الذي يستحق أن يكون الفائز بالتحدي لأنه أول من عرفني على الشاب خالد.

إقرأ أيضا
خسارة إسرائيل

(6)

في عصر اليوم خرج طارق إلى البلكونة حاملًا جهاز التسجيل كالعادة، ناديت عليه كي ارسل له الشريط ليقوم بتشغيله، صدح الكاسيت بصوت الشاب خالد، خرج أغلب الشباب من البلكونات وبدا الشارع في حالة نشوة جماعية، طالب الكل بإعادتها مرة أخرى حتى وصلنا إلى ساعتين كاملتين لا نسمع سوى “دي دي”

نال طارق شعبية مستحقة في الشارع فأصبحت بلكونته هي المحطة الإذاعية لنا التي تبدأ بثها يوميًا من الرابعة حتى السادسة، كان يفعل ذلك بحب شديد دون تذمر ودون أن يخص نفسه بتشغيل أغنية واحدة يحبها هذا يطلب منير وآخر يطلب عمرو دياب واخر فؤاد، ليأتيه صوت من منتصف الشارع “دي دي يا طارق والنبي”

YouTube player

(7)

عندما شاهدت إعلان “بنك القاهرة”، توقفت عند أول مشهد حيث الشاب المراهق الذي يستمع إلى أغنية راب سريعة  يسأله والده “بذمتك أنت فاهم حاجة م اللي بتسمعه ده” ليرد عليه الشاب متحفزًا “يعني انتوا كنتوا فاهمين حاجة من ديدي ولا شمندورة” ثم يفتح الكادر على “الشاب خالد” و”محمد منير”.

هذا المشهد ذكرني بتلك المشاهد السابقة، نعم نحن الجيل الذي لم يفهم أي شئ من “دي دي” لاننا لم نكن نملك ما يملكه الجيل الحالي الذي يجد كل شئ متاحًا أمامه بضغطة زر، نحن الجيل الذي لم يطرد “دي دي ” أو “شمندورة ” أو “ما بلاش نتكلم في الماضي” من ذاكرته بل ظلت معه حتى الأن ونقشت ذكريات لن يمحوها الزمن ابدًا، نحن الجيل الذي لم يستهلك الأغاني كما تستهلكوها أنتم الآن فأصبحت  كالمناديل الورقية تستعمل لمرة واحدة ثم تقذف بها إلى سلة المهملات.

نعم أنا من الجيل الذي فرت من عينه دمعت عندما رأى الشاب خالد صحبة محمد منير واثار الزمن تغزو ملامحهما وملامحه ايضًا، ورن في عقلة صوت لفتى كان في مثل سنك يصدح  بأعلى صوت لديه “ديدي والنبي يا طارق” 

ملحوظة

كل المشاهد الواردة في المقال حقيقية جدًا حدثت بالفعل مع تغيير فقط الأسماء.

YouTube player

الكاتب

  • دي دي محمد عطية

    ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات

    كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
12
أحزنني
0
أعجبني
6
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
6


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان