عن حياة محمد قدري باشا أسطورة الفقه والقانون الذي لا زالت بصماته موجودة
-
محمد سعد
خريج كلية الحقوق .. كاتب تقارير نوعية ومتخصص في ملفات التراث الديني والإسلام السياسي
كاتب نجم جديد
لم يكن محمد قدري باشا من علماء الأزهر الشريف لكنه أصبح من أهم وأعظم فقهاء الشريعة الذين خدموا الشريعة والقانون في مصر والعالم العربي والإسلامي فقد إستطاع قدري باشا على الرغم من دراسته المدنية تقنين الشريعة الإسلامية وصياغتها في شكل قوانين حديثة تنافس قوانين الدولة العثمانية آنذاك والتي كانت تصدر قوانينها من خلال المجلة العدلية.
اقرأ أيضًا
أثر الفقه الإسلامي على القانون الفرنسي بسبب الأندلس ومصر “أشياء مجهولة أخفاها الجهل والإرهاب”
من أهم مؤلفاته «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان»، وكتاب «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية»، وكتاب «قانون العدل والإنصاف للقضاء في مشكلات الأوقاف»،هذه الكتب الثلاثة لا يغيب اسم واحد منها عن ذاكرة محامٍ أو قاضٍ أوطالب حقوق ولا حتى رجل من رجال الشرع الإسلامي ، ونستطيع أن نقول أن هذه الكتب الثلاثة لا تقف معرفتها عند رجال القانون أو الشرع بل تمتد إلى عدد كثير من سواد الناس فقد نظمت ثلاثتها أحكام الشريعة على مذهب أبي حنيفة ويجد القاريء لهذه الكتب ترتيب وتبويب أكثر من رائع.
من يكون محمد قدري باشا ؟!
ولد محمد قدري باشا بملوي محافظة المنيا حوالي سنة ١٨٢١ وأصل أبيه أناضولي هو قدري أغا الذي كان من أعيان بلد وزير كوبرلي، وحين جاء إلى مصر أقطعه والي مصر بعض العزب بمركز ملوي على طريقة الالتزام التي كانت معروفة يومئذٍ، فتزوج من مصرية ولدت له ولده محمدًا وأدخله مدرسة صغيرة بملوي، حتى إذا أتم الدراسة بها بعث به إلى القاهرة في مدرسة الألسن حيث أتم بها دراسته وعين فيها مترجمًا مساعدًا.
قدري باشا لم يدرس في الأزهر الشريف ولكن هذا الرجل الفذ درس في كلية الألسن وتعلم اللغات وجدير بالذكر أن كليات الألسن حينها كانت تضم مشايخ وفقهاء الأزهر يدرسون اللغة العربية والفقه والمنطق ووجدت مخطوطات لأحد طلاب كلية الألسن في علم المنطق لكن لم يطبع بعد .
انكب قدري باشا على الكتب يطالع ويحرر المسائل الفقهية ويدقق حتى أصبح من أساطين الشريعة والقانون وذلك بعد ما أتقن عدد من اللغات الأجنبية الأخري ومنها الفرنسية وكان له شغف بالحضور إلى الجامع الأزهر ليزداد من علوم الشريعة والفقه .
عين قدري باشا مدرساً مساعداً بكلية الألسن إبان تخرجه من الكلية ولما احتل إبراهيم باشا الشام تم تعين شريف باشا واليًا لها، فأخذ هذا الأخير قدري باشا (وكان ما يزال قدري أفندي) سكرتيرًا له، ثم سافرا إلى الأستانة وعادا بعد ذلك إلى مصر وظلا متلازمين حتى عُيِّن قدري باشا أستاذًا للغتين العربية والتركية في مدرسة الأمير مصطفى فاضل باشا، ثم اختاره الخديو مربيًا لولي العهد.
في أثناء عمله بالتدريس ألف كثير من الكتب في موضوعات مختلفة أكثرها في اللغة العربية منها (الدر النفيس في لغتَي العرب والفرنسيس) ويقع في سبعمائة صفحة، و(الدر المنتخب من لغات الفرنسيس والعثمانيين والعرب)، و(أجرومية في اللغة العربية)، و(مختصر الأجرومية الفرنساوية) مترجمة إلى العربية، و(المترادفات باللغة العربية والفرنساوية)، هذا عدا بعض كتب في التاريخ والجغرافيا ككتاب (معلومات جغرافية مصحوبة ببعض نبذ تاريخية لأهم مدن مصر جمعت وترجمت بالعربية لفائدة الشبيبة المصرية)، وهذا الكتاب تم طبعه في سنة ١٨٦٩ م.
مما سبق يقطع بأن قدري باشا كان ضليعًا في اللغتين العربية والفرنسية فكان طبيعيا أن يدعى للاشتراك في التمهيد للعمل التشريعي والتي دعت إلية الحكومة المصرية وكان هذا العمل بمثابة المقدمة لانتشار المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية.
كان قدري باشا يميل للفقه والشريعة نظرا لشغفه من صغره بهذه العلوم فقام بالتفكير في تقنين الشريعة الإسلامية وشجعه على ذلك عندما تم إسناده مهمة الاشتراك في ترجمة قوانين المحاكم المختلطة إلى اللغة العربية مع اللجنة التي أنشئت في وزارة الحقانية للقيام بهذا العمل تمهيدًا لوضع تشريع جديد للمحاكم الأهلية التي أزمع إنشاؤها من يومئذ.
بيد أن التشريع للمصرين كان يوجب التوفيق بين أحكام القانون المختلط الجديد الذي أخذ عن القانون الفرنسي وبين أحكام الشريعة الإسلامية التي كان عليها القضاء.
كانت مهمة قدري باشا في هذا العمل تقوم على الترجمة من الفرنسية إلى العربية وتعديل نص المادة بما يوافق الشريعة الإسلامية وكانت خلاصة جهد قدري باشا أنه قد وضع كتابًا لم ينشر بعد وما تزال نسخته المخطوطة في دار الكتب المصرية عن (تطبيق ما وجد في القانون المدني — الفرنسي — موافقًا لمذهب أبي حنيفة)، وجاء في مقدمته أنه «بيان المسائل الشرعية التي وجدت في القانون المدني مناسبة وموافقة لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان. هذه المقارنة جعلت من قدري باشا فقيه قانوني عظيم تم تعيينه بعدها رئيسا لإحدى محاكم الإستئناف ثم وزيراُ للمعارف ثم تولى وزارة الحقانية في أول عهد محمد توفيق . بعدها وجه قدري باشا كل طاقته إلى تقنين مذهب أبي حنيفة على شكل قوانين حديثة فقام بوضع الكتب الثلاثة التي ما يزال اسمه مقرونًا بها: (مرشد الحيران) في المعاملات، و(الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية)، و(قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف)، وقد ظلت هذه الكتب كلها مخطوطة إلى حين وفاته في 20 نوفمبر سنة 1886 ولم تطبع إلا بعد الوفاة بسنوات طويلة.
توفي محمد قدري باشا يوم الأربعاء 17 ربيع الأول 1306 هـ الموافق 21 نوفمبر 1886 م، عن عمر يناهز 65 عامًا، ونعته جريدة الوقائع المصرية فقالت: “في الليلة الماضية، انتقل من هذه الدار الفانية إلى دار النعيم والبقاء المرحوم قدري باشا، ناظر الحقانية المصرية والمعارف العمومية سابقًا. ولما أُبلغ هذا الخبر إلى المسامع العلية الخديوية، أمر الجناب العالي ـ حفظه الله ـ بإجراء ما يجب من التوقير والاحترام في تشييع جنازته؛ لما كان له ـ رحمه الله ـ لدى الجناب العالي من المكانة والإعظام”.
الكاتب
-
محمد سعد
خريج كلية الحقوق .. كاتب تقارير نوعية ومتخصص في ملفات التراث الديني والإسلام السياسي
كاتب نجم جديد