همتك نعدل الكفة
2٬896   مشاهدة  

رياض الصالح الحسين.. 28 برتقالة و4 مقاعد شاغرة وحبيبة اسمها “س”

رياض الصالح الحسين
  • محمد الموجي ممثل وكاتب مصري، تخرج من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وعمل بعدد من المؤسسات الإعلامية بينهم قناة أون تي في ووكالة أونا للأنباء وموقع إكسترا نيوز وموقع كسرة والمولد، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج.

    كاتب نجم جديد



مقعدان في الإتوبيس نراه يجلس فوق إحداهما رياض الصالح الحسين؛ وحيدًا ماسكًا بتذكرته، بينما ظل المقعد الآخر شاغرًا أو ربما كانت تعلوه التذكرة الأخرى.

هل كان رياض ينتظرجلوس السيدة (س) التي أحب؟ أو ظن أنه سيلتقي مصادفة أحد أبناء مدرسته التي رحل عنها مرغمًا فحجز له تذكرة ليضمن جلوسه واستعادة الذكريات.

أو ربما تمنى الشاب النحيف أن يكون هذا المقعد لوالده؛ فيلتقيان هذه المرة في ساحة واسعة لا غرفة ضيقة كانت شاهدة على وصول عمر رياض الصالح الحسين إلى 28 حبة برتقال ومرضه ورحيله وخذلان الوالد الأعز.

كان الشاعر السوري رياض الصالح الحسين يقطع تذكرتين؛ لأنه لا يحب أن يجلس أحد إلى جانبه، فيلاحظ إعاقته السمعية ويسأله عنها.

يقول صديقه الكاتب نذير جعفر الذي اقتسم معه أكله الخاص في أول لقاء جمعهما بالعمل:

“رياض كان يتألم لوصفه “أصم”؛ كان قادرًا على قراءة الشفاه، لا يلجأ للكتابة على الورق إلا في بداية أي علاقة”.

“رياض لم يكن أبكمًا، كان يتحدث ويغني بلكنة مميزة ونبرة خاصة”.

“كان يتحدث كطفل يتعلم الكلام.. كان يسمع بعض الكلمات وأسأله هل سمعت فيبتسم ويردد الجملة بصوت مرتفع”.

الشاعر هاشم شفيق يذكر “لم يجرؤ أحد على سؤال رياض عن سبب مرضه أو طبيعته”.

كان رياض يحب الحرية والحب والشعر والغناء فتجاوز إعاقته وأبدع كتب عنهما شعرًا وغنى باسمهما واعتقل من قبل السلطات السورية.

يغني لفيروز كطفل سعيد يدغدغ الأحرف والكلمات “بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق”.

ويدندن لفريد الأطرش “ياريتني طير لأطير حواليك”.

أما أنا فعرفت رياض الصالح الحسين فأدركت كيف يكون الشعر بسيطًا، ورحتُ أفتش عن سيرة رجل أحب أن يحصي عمره بالحب وحبات البرتقال:

من يتأمل حياة الشاعر السوري يجد شعرًا يبدو بسيطًا كماء صافٍ بلون زرقة السماء، ويجد حياةً صعبة ومؤلمة كطلقة مسدس أصابت هدفها فنزف.. شعر رياض يشبهه بينما حياته تشبه قسوة شخص آخر، شخص لم يحاول أن يجلس بجواره على المقعد الشاغر.

13 برتقالة ومقعدًا دراسي

ابن لرجل سوري تطوع في الجيش السوري، وتزوج مرتين.

رياض المولود عام 1954 جنوب سوريا، كان له ستة أشقاء وثلاث شقيقات، وأخوين من زوجة أبيه الأولى.

في الصف السابع الدراسي، اُضطر رياض أن يرحل عن مقعده الدراسي بسبب المرض.

وعمره 13 برتقالة أُصيب الولد الذكي بالتهاب المجاري البولية، ما أدى إلى حدوث قصور حاد في وظائف الكلى.

اضطر رياض لإجراء جراحة أفقدته القدرة على السمع تمامًا وأفقدته النطق بشكل كبير، هذا المرض جعل رياض عطشًا دائمًا.

فقد القدرة على التواصل لفترة كبيرة، وكانت كافية لينهال على الكتب، فيعرف الكثير عن التراث والأدب العالمي. أصبح مرجع لإصدقائه ودليل يهتدون به.

وأدخله صديقه الشاعر السوري بشير البكر إلى عالم الثقافة والأدب في سوريا.

يجعل رياض من كل الجمادات أو الأشياء اللاملموسة بشرًا أو أشياءً ذات علاقة بجسده:

“عندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي.. وللجدران أصابع تتحسَّس أضلاعي.. و للأبواب ألسنة تتكلَّم عنِّي.. وعندما يصبح للماء طعم الماء.. وللهواء نكهة الهواء.. و للحبر الأسود هذا رائحة الحبر.. وعندما تهيّء المطابع الأناشيد للقرَّاء بدلاً من الحبوب المنوِّمة.. وتهيّء الحقول القمح بدلاً من الأفيون.. وتهيّء المصانع القمصان بدلاً من القنابل.. سأقف، أيضًا، سأقف لأحدِّثكم عنِّي”.. قصيدة دخان.

وقالت المرأة التي ترتدي العاصفة و الوحوش: “أنت تعرف الكثير عن صبايا الأزقَّة المغلَّفات.. بالأقفال البلاستيكيَّة الملوَّنة.. والأطفال الأغبياء المتمسِّكين بالأحصنة الخشبيَّة.. و نهود الأمَّهات”.. قصيدة الرجل السيء.

“الآن تعالوا لنحتسي قليلاً من الدهشة.. الآن تعالوا لنمزّق خطانا المترددة.. نلفّ أوجاعنا بورق السجائر الرقيق وندخنها باطمئنان… بعد قليل ستتقدم البذلة الأنيقة.. التي تحتوي رجلاً لامعًا.. لتقدم الهدية إلى وحش رؤوسه بعدد.. القارات والمدن والقرى..” قصيدة جرثومة النبع.

“أيتها الشمس، لماذا ترتعشين من البرد.. وحطب قلبي مهيّأ للاشتعال ؟”

بعد المرض أصبح الأدب والشعر والجمادات التي يكتب عنها في كل قصيدة، هامسًا في أذنيها ليهب لها الحياة، هي الإنسان والصديق الأول والأقرب لرياض، فجلسوا على مقعد يلتصق بمقعد رياض.

في أثناء عمله بمصنع النسيج ثم مع أخيه بورشة الخياطة، بدأ يقرأ الشعر العالمي المترجم ويكتب قصائده ويعرضها على أصدقائه وهو ابن 18 عامًا، وكتب بجريدة جيل الثورة مع كبار الأدباء.

مقعد من أجل الآنسة (س)

منذ سنة صدمت امرأة وحيدة في الشارع.. تلبس بذلة باهتة و لكن عينيها لامعتان.. صرنا أصدقاء بسرعة.. وبعد أيام تبادلنا القبلات و الأحلام و كان اسمها: “س”.

سمر المير أو الآنسة (س)، تلك الجميلة التي عرفها رياض وعمره يقترب من 20 برتقالة، يقول عنها “تُحب الماء والرحيل.. كان شعرها يتطاير مع الريح كالعصافير الخائفة.. ويداها زهرتان حول عنقي.. كانت تُحبّ غرفة صغيزة في قطار.. وكتاباً لرامبو تخبأه بين ملابسها الداخلية.. كانت أيضاً، تحب الأعياد والأطفال كان اسمها : س.. ضفيرتان من أوراق البرتقال والملمس الناعم تُحبّ الرمل، والقُبلة وتُحبني”.

مثلما أفقد المرض رياض مقعدًا أو أكثر في الحياة، أتاح له الفرصة للحصول على مقاعد أخرى، فلما سافر رياض إلى بلغاريا لإجراء عملية جراحية أخرى عرَف (س) هناك، عاد لأصدقائه وهو يطير فرحًا “أنا أحب”.. ويؤكد صديقه وائل السواح أنه لا يعتقد أنه أحب غير الآنسة س التي كانت مثله تحب الطبيعى، كانت عالمه وسره وقصيدته، كانت الآنسة “س” هي الرمز والنموذج للمرأة، كانت هي الصلاة والطهر:

“حينما كنتُ صغيرًا كغرسة الحمّص وأليفًا كالهرّة.. سألتْني سيّارةٌ هرمة.. بعد أن لطَّختْ وجهي بالطّين.. بماذا ستغتسل في المستقبل؟ آنئذٍ، فتحتُ البابَ ودخلتْ س”.

أظن أن “س” كانت تعرف قدرها في حياة رياض الصالح الحسين ؛ فشخص ببراءة وطفولة وقدرة رياض على التعبير، لن يخفي حبه عنها.. فهي الحياة التي سألته عن كل معاني الحياة عن الأرض والحب والحرب والعيش، فافتخر بصداقتها:

“أنا صديق الآنسة “س”.. ذات الشَعر الخرنوبي الخفيف.. “س” التي يركض في شَعرها حصان هائج وساقية أنين.. تبيع (الشيكلس) في المحطات حتى الغروب.. و تعود إلى بيتها بصدر معبأ بالليل و النجوم.. والأحلام اليابسة و قصاصات الجرائد… نامت في فراشي البارحة، بعد أن نفضتْ عن شعرها الخرنوبي الخفيف ستَّ مدرعات محطمة و حقلاً من الذرة الصفراء.. س” المملكة المفتوحة للجميع بجسدها المتين و قلبها الطيب كالدراق- سألتني مرة بخبث: ما الأرض؟ قلتُ: “الأرض جرح متوهج و دم غزير و ألم مرتبك”… لم أستطع أن أشتري لـ “س” زهرة لوتس.. أو اسوارة بلاستيكية”.

“أنا صديق الآنسة “س” ذات الشعر الخرنوبي الحفيف التي تتعفن تحت لسانها ليمونة من الأسئلة البسيطة و المخيفة انتظرتها على السطح فجاءت بقميص مطعون بالنجوم و الأحلام اليابسة.. و كان عليّ أن أقبّلها.. وأعتقد بأنني فعلت ذلك بشكل جيد”.

لم يرغب رياض للآنسة “س” أن ترحل عن مقعدها أبدًا، لكنه اضطر هو لأن يغيب عن مقعده! وهو على يقين أن سطوره ستخلد قصة حبهما وأن لقاء سيجمعهما.

رياض الصالح الحسين

قبل أن يرحل بوقتٍ ليس بطويل كان رياض يفكر في الزواج من سيدة لم يفصح عن اسمها قائلًا لصديقه:

“لا تسألني من هي الآن.. فأنا لا أحب الفضوليين”.

وتقدم رياض لخطبة سيدة عراقية اسمها هيفاء أحمد، لكن هذه القصة أيضًا لم تكتمل، وانتهت بحزنه ومرضه.

غرق رياض في همومه وأسرف في الشرب فتدهورت حالته الصحية، لكنه ولم ينس أن يهدي هيفاء  ديوانه الأخير.

“أصبحتُ في الثالثة والعشرين..

رجل بوجنتين شاحبتين و مستاء للغاية

ودعت (س) بعد أن تركت على عنقها دمعة حارة كالفلفل

إقرأ أيضا
أغنية أنا قلبي إليك ميال

وها أنذا أعمل لأشتري لها تفاحة  ورغيفًا

و لكن ثمة من أخبرني:

بأني سأجد في التفاحة دودة.. و في الرغيف صرصارًا ميّتًا

فإذا تركت الرغيف و التفاحة سأموت.. وإذا أكلتهما سأموت

و في الحالتين سأخسر نفسي.. في الحالتين سأخسر س”

ربما كانت “هيفاء” صورة أخرى لـ “س”، وبالطبع “س” هي صورة للحبيبة ولكل حبيبة، وفي الحالتين مات رياض آلمًا.

المقعد الرابع لوالده وبعيدًا عن الغرفة الضيقة التي تصلح للموت:

بحسب شهادة أصدقائه لم يكن رياض يحب الحديث كثيرًا عن علاقاته العائلية، وأنه كان يعتبر إحدى شقيقاته بمثابة أمٍ له.

ويقول بعض أصدقائه إنه بعد دفن رياض عاد والده إلى دمشق، حيث يسكن رياض في غرفة ضيقة وصغيرة كما وصفها.ظ

وأخذ يجمع كافة أغراضه الشخصية ويسأل عن مستحقاته المالية.

وبعد فتورٍ واضح في تلقي العزاء، فتح الأب درج رياض وأخذ مخطوطات ديوانه الأخير “وعل في الغابة”.

رحل رياض الصالح الحسين الذي عانى البطالة وأصر على تعليم نفسه.

رحل بعد أن قبل أي عمل يعرض عليه، نراه صحفيًا وموظفًا وعامل بمصنع نسيج وبدكان للخياطة، رحل تاركًا 4 دواوين:

“خراب الدورة الدموية” 1979، “أساطير يوميّة” 1980، “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدَّس”1982.

أما ديوان “وعل في الغابة”، فنُشر بعد وفاته بعام.

هذه كانت سيرة رجل عطش إلى الحب والقراءة والكتابة؛ فانهال عليهم وأصبحوا أصدقاء حياته وسيطروا على شعره.

وهذا كان رياض “حارٌّ كجمرة.. بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدَّس.. ويريد أن يحيا”.. قصيدة أيَّتُها الأحجار استمعي إلى الموسيقى.

“الرجل مات.. الخنجر في القلب والابتسامة على الشفتين.. الرجل مات.. الرجل يتنزهُ في قبره”..  قصيدة الخنجر.

رياض الصالح الحسين

مصادر: (1)، (2)، (3)، (4)، (5)، (6)، (7)، (8)، (9)

محمد الموجي يكتب عن صالح علماني

الكاتب

  • رياض الصالح الحسين محمد الموجي

    محمد الموجي ممثل وكاتب مصري، تخرج من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وعمل بعدد من المؤسسات الإعلامية بينهم قناة أون تي في ووكالة أونا للأنباء وموقع إكسترا نيوز وموقع كسرة والمولد، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج.

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
8
أحزنني
4
أعجبني
2
أغضبني
1
هاهاها
2
واااو
2


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان