عن مصر التي لا تشاهد التليفزيون
-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة
الواقع المر بعدسة مكبرة، استغاثة وصلتني: عمل المرأة عيب والزواج من ١٢ سنة
في يوم قريب تلقيت رسالة من شابة هي باحثة ماجستير ومتدربة أيضا على الصحافة تقول الرسالة هل ممكن تساعدنيا يا أستاذة رشا عندنا كذا بنت ممكن تبقى بسنت.
أعرف الشابة وكم هي يافعة ونابغة وتبشر بمستقبل مهم حددت موعدًا لحديثنا.
أما لمن لا يعرف بسنت فهمي فتاة الدقهلية ذات الستة عشر عامًا التي أقدمت على الانتحار بعد ابتزازها من قبل شباب بصور مخلة قيل أنها مفبركة.
نعود إلى الباحثة التي أرسلت في طلب المساعدة وكأنها تستغيث، تحدثنا مرات عديدة وكان وقع ما سمعته من حال الأسر والمرأة بشكل خاص في القرية التي تعيش فيها الباحثة محزنًا ثم اجتمعت بفتيات صغيرات من قريتها تراوحت أعمارهن بين الثانية عشر والسادسة عشر لأسمع منهن وإليكم ما سمعت وما فعلته بعد ذلك:
بدايةً زواج الفتيات من عمر ١٢ سنة هو العرف كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في حديثه أثناء إطلاق المبادرة المصرية لتنمية الأسرة وكنت أعتقد أنني لن أجد الزواج المبكر شائعًا إلى هذا الحد في قرية تبعد عن القاهرة ٣ ساعات بالسيارة في الريف المصري وتتبع محافظة من محافظات وجه بحري ناهيك عن أن الثانوية العامة هناك تعد حلمًا لا يطوله الكثير، فالبنت إن تأخر زواجها عن نيلها الشهادة الإعدادية فعليها الالتحاق بالمدرسة الثانوية الفنية انتظارًا للعَدَل أي الزواج.
قالت لي فاطمة واحدة من بنات القرية، أن أختها تزوجت في الثانية عشر من عمرها بينما تريد هي استكمال دراستها حتى الجامعة ولكن والدها لا يستطيع تحمل نفقات الثانوية العامة لذلك سيجبرها على الثانوية الفنية أو الصناعية، قلت لها بحماس: ولكن ما الذي تحتاجه الثانوية العامة الحكومية من نفقات تزيد عن الفنية؟.
ابتسمت الفتاة وقالت: فلوس يا أستاذة دروس كتير قوي أصلا لا في مدرس بيحضر ولا حد بيروح المدرسة.
أجبتها متحدية تواكلها وقلت: أن الإنترنت أزال مثل هذه العوائق وأصبح بديلا للمعلم ولديكِ بنك المعرفة ومئات الدروس عبر اليوتيوب.
ابتسمت الصغيرة ابتسامة أكبر وقالت: كلام زي الفل يا أستاذة كلامك جميل متعلمة ومتنورة بس حضرتك بقى متعرفيش ان احنا معندناش انترنيت وإن أنا حلم حياتي يكون عندي لاب توب وفوق كل دا أبويا رافض والتلفون الأرضي أمي جافلاه (مغلق) بقفل وهناك بيت واحد من (أقرباءنا) لديه إنترنيت لكن والدي لن يسمح لي باستخدامه فهو يعتبر إن التلفون اللي فيه فيس بوك بيبوظ البنات، وكان حال بقية الفتيات مثل حال فاطمة.
لا يمكن بسهولة وصف شعوري لحظتها لكنه مزيج من الإحساس بالضئالة والعجز والتقصير في حق هؤلاء الفتيات شعور مختلط بين المسئولية وقلة الحيلة.
أذكركم أن استغاثة الباحثة كان محركها حادث انتحار بسنت فقد كانت تحث الفتيات على أن يقصصن أمامي قصصًا لأخريات بعضهن حاضرات بالجلسة يهربن سرًا بعد نوم الأهل للقاء شباب من أعمارهن نفسها عند المقابر حتى لا يُكشف أمرهن، وهذه أبسط ما يمكنني البوح به من خلال مقال.
لم يكن من الصعب بعد ساعات طويلة من الحديث إلى الفتيات وأمهاتهن أن أصل لاستنتاج أولي وإجابات عن أسئلة شغلت بالي فالبنات تُربى من أجل الزواج وبالتالي لا فرص لتحققهن أو شغل أوقاتهن وهن مراهقات غير انتظار العريس أو محاولة الحصول عليه فهو وحده الذي يحققهن ويعزز من وجودهن فكل شيء ممنوع، كما تعاني غالبية الفتيات من التمييز حيث تكررت الشكوى من التفرقة في المعاملة بين البنت والولد ما يزيد من تعرض الفتيات للعنف المنزلي من الأب والأم والأخ أيضًا، لتصبح البنت في بيت أهلها الفقراء هي الفرد الأكثر تعرضًا للقهر والظلم من قبل الجميع إضافة إلى الحرمان من كل السبل لاكتشاف ذاتها حتى بدى حلم حيازة الموبايل هو الأكثر سيطرة على وجدان الصغيرات اللاتي ألححن في طلب مساعدتي لتحقيقه.
سألت، هل تعمل أي من الأمهات؟ فكانت الإجابة وبرغم الفقر الشديد أن كلهن ربات بيوت والقليل جدا تخرجن بشكل موسمي محدود لجمع المحاصيل مرتين في السنة!.
ولا خياطة؟ سألت الباحثة، فأجابتني لا تعرف النساء أي حرفة وكل الخياطين في قريتنا والعزب المجاورة رجال كما أن الشغل يعتبر دليل واعتراف أب الأسرة بالحوجة ويمس قوامته ويجرح ذكورته بشكل مباشر لذلك هو عيب ومرفوض! ورغم الحوجة وشدة الفقر التي تضطر الأب لحرمان بناته من التعليم وتزويجهن مبكرًا إلا أن ما سبق طالما لا يمس ذكورته فلا بأس.
تلفت حولي لأتأكد أننا في العام ٢٠٢٢
في القرية إياها كثيفة السكان في الريف المصري يعتبر الزواج المبكر شائع جدًا ما يعني طول عمر سنوات الإنجاب للإناث ويقابله كنتيجة انفجار سكاني خارج عن السيطرة ويلاحظ مما شهدت أيضا شيوع الختان برغم تغليظ العقوبة فالكل يتسترعلى الكل كما تسترت الصحافة على نشر التفاصيل الكاملة لحادث وقع في القرية إياها بعد أن أقدم طالب ثانوي فني يتعاطى المخدرات على قتل آخر – متعاطي- بعد أن تداول الأخير مع أهالي القرية فيديو مخل سربه لوالدة القاتل، واقتصر الخبر الذي تم نشره على عاطل يقتل آخر لخلاف بسبب المخدرات.
لن أخفي على القارئ أنني سمعت من الفتيات وأمهاتهن جرائم أفدح والغريب أن الفتيات تعرفن بالاسم المتورطين في كل جريمة وبعضها مخل بكل القيم المصرية الشائعة في القرية نفسها، وأريد أن أقول أنني أصبت بالهلع من هول ما عرفت ولم أكن لأكتب مقالي هذا إلا بقناعتي بأن كتم الجرح لا ينظفه مثل فتحه والاعتراف به، وخاصة بعد ما أُثير من جدل عن تعثر التنمية أمام تفاقم مشكلة الانفجار السكاني مع معدلات الفقر وغياب الوعي.
مبادرة حياة كريمة
كان حديثي مع الباحثة قبيل وصول مبادرة حياة كريمة إلى القرية المقصودة في الريف المصري بأسابيع قليلة وهي الملاحظة التي أرى ضرورة التأكيد على ذكرها حيث أن القرية تحتاج إلى معجزة بداية من الصرف الصحي وحتى تغيير ثقافة الأسر الشائعة تجاه كل ما سبق غير إتاحة فرص عمل فلا يوجد على سبيل المثال مصنع واحد في قرية يتجاوز تعداد سكانها خمسين ألف نسمة.
وعليه فقد تواصلت مع أصدقاء من أصحاب الخبرة الطويلة في مجال المجتمع المدني لنجد طريقا لمساعدة الأسر العالقة في الجهل، وبدأت الباحثة بالفعل رفع واقع مبدأي بجهد ذاتي مع متطوعين من أبناء القرية – بناء على مشورة مختص- لنحدد وفق ما نجده نوعية المساعدات المطلوبة والجهات التنموية المتخصصة لكل مشكلة حتى تتوجه كل جهة إلى إجراء بحثها الميداني بشكل منفصل، وبينما نحن في طريقنا تم اختيار الباحثة الصديقة لتكون مسئولة عن الشباب في مبادرة حياة كريمة لدى وصولها القرية واستبشرنا.
لا وجود للقيادات الشعبية
لم يفوتني أن أسأل الباحثة التي كانت تعاني قلقا شديدا من انصراف الشباب إلى المخدرات عن القيادات الشعبية والأنشطة الرياضية حيث لوحظ تغير الوضع في عدة قرى الريف المصري من هجرة بعض القيادات الشعبية هجرة داخلية أو خارجية من جهة واعتزال البعض الآخر العمل العام وهو ما أكدته لي الباحثة حيث قالت أن قريتها خسرت شبابا كثيرا بسفرهم خارج البلاد وقد كانوا يواظبون على تشكيل الدورات الكروية والندوات الثقافية ولم يختلف الحال على الكبار حيث تراجع تأثير الحكم العرفي ولم يعد لقرارهم قدر، ولقد فقد كبار القرية تأثيرهم وهيبتهم مع فقدهم لقدرتهم على المساعدة وتقديم الخدمات وما أقوله ينطبق حتى على بعض من أعضاء مجلس الشعب.
مطلوب صياغة منهج تنموي مخصص للفتيات دون ١٨ عشر بإشراك الأسرة
كيف يقف المواطن جوار بلده دون أن يعرف الباب الذي يمكنه أن يقدم عبره المساعدة!
نحتاج لإيجاد طريق نساعد من خلاله في إعداد منهج تنموي مخصص للفتيات في القرى دون سن الزواج يقوم على صياغته أكاديميين واختصاصين وتنمويين كل في مجاله لنحصل من خلال جهدهم على تصميم موحد خاص بمشكلاتنا التي نريد مواجهتها بتنسيق واحد وبهدف تقديم الدعم النفسي والاجتماعي الذي تحتاجه الفتيات بالظرف الذي جاء في سياق القرية موضوع المقال والذي يعد متكررا في أكثر من قرية، وسيكون العمل على صياغة المنهج تطوعيا – سأضمن ذلك – ولن نكلف الدولة قرشا واحدًا وبعد الإعداد سنبدأ بوضع خطة زمنية لتلقي الفتيات – وفق اختيار ومعايير محددة – التوعية المطلوبة – بمتطوعات – عن كيفية اهتمامهن بصحتهن النفسية والبدنية وأهمية الرياضة والتغذية السليمة في ذلك، إلى جانب قيمة العمل وضرورة تحديد النسل والصحة الإنجابية، وسيكون مضافا إلى المنهج التوعية النفسية بخطورة العنف والتمييز بين الأبناء، لذلك سيوجه البرنامج للأسرة كلها في الشريحة المقصودة.
إن إعداد الفتيات في الريف المصري ليصبحن أمهات قادرات على تربية أبنائهن هو مسئوليتنا جميعا وبذلك يكون الوقوف إلى جانب الوطن، بالمبادرة وليس بالتجاهل أو السكوت، ولا أظن أن الحكومة قادرة على تقديم الدعم المطلوب بالنوعية والكمية المطلوبة خاصة مع تراجع الأداء الوظيفي الذي لم يعد خافيا على أحد فلما لا نفتح الباب أمام تجارب موازية ربما تحقق هي النجاح المرجو.
فكيف لنا أن نتوقع نتائج إيجابية في مستقبل بأيدي أمهات كن مُعنفات، مهزومات ودون وعي بأبسط المفاهيم والمعارف العلمية والنفسية اللازمة.
في انتظار الرد وإن تأخر!
الكاتب
-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة