عن موسيقى المهرجانات و الأندر جراوند وإعادة تعريف الجمال في الفن
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يحكي الشاعر الإسباني العظيم “لوركا” عن مشهد حدث داخل إحدى الحانات التي تغني فيها مغنية الفلامنكو الشهيرة “La Niña de los Peines” في حضور ما يمكن اعتبارهم صفوة السميعة في تلك البلدة، “لانينا” المشهورة بصوتها النحاسي اللامع وأدائها العبقري الذي يفيض كشلال هادر كانت على موعد مع صدمة لم تقابلها في حياتها، فعندما بدأت في الغناء لم يتفاعل معها أحد مطلقًا، وبدا عدم الإكتراث بطريقة ادائها – رغم عبقرية صوتها – وزاد مستمع اّخر الطين بلة بالسخرية منها؛ فبدلا من تحيتها قام بتحية زجاجات الخمر الباريسية ليتمزق قلب المغنية من الحسرة على خشبة المسرح.
لم يكن هناك حلًا سوى أن تترك خشبة المسرح و تتنحى جانبًا لتأخذ مقعدها على البار، وترتشف كأسًا من البراندي الذي بدا كجمرة نار تحرق جوفها، وبدأت في الغناء بصوت متهدج ضائع خالي من أي إستعراض وكأنها تناجي روحها ورغم إنها لم تغني غناء سليمًا كما فعلت على خشبة المسرح إلا أنها اجبرت من كانوا في الحانة على التماهي معها والتفاعل مع حالة اللاوعي التي كانت عليها ، كان لزامًا عليها أن تتخلى عن صنعتها وإن تمزق الحاجز الذي كان يمنعها من الوصول إلى الجمهور..
الجمهور عاوز كده.
يقرر هذا الموقف حقيقة أنه لا يمكن جديًا توقع رد فعل الجمهور تجاه أي عمل فني، ومهما بذل الفنان من جهد في إتقان صنعته والعمل على تجويد منتجه الفني لخروجه في أفضل صورة، فهو لا يضمن أن يلقى نجاحًا في النهاية، وهو مايفسر أسباب تخلي بعض الموهوبين عن اتجاهاتهم الفنية، و لجوئه إلى نمط الموسيقي السائد خوفًا من انصراف الجمهور عنهم او كما تفسره عاميتنا – الجمهور عاوز كده – و هل صعود نجم شخص لا يملك موهبة عظيمة على حساب اّخرون يملكون مواهب أعظم له علاقة بشريحة الجمهور التي تصنع النجوم، كلها إشكاليات يمكن تلخيصها أن كل فن مهما كان جودته سوف يلقى جمهوره وأن تفاوتت عدده الذي تتحكم فيه عوامل مثل طبيعة المجتمع وثقافة جمهوره ومدى إدراكه لأهمية الفن.
الحد الفاصل بين المطرب والمؤدي
مع إتساع ظاهرة موسيقى الجيل في أواخر الثمانينات واتهام حميد الشاعري وجيله بتسطيح الأغنية المصرية، خرج علينا حميد بمصطلح “المطرب المؤدي” وكأنه يدافع عن نفسه واصفًا جيله بالمؤدين لا المطربين، وأنه لا يؤذي أحد بغناؤه وعدم امتلاكه صوتًا طربيًا لا يمنعه من ممارسة الغناء فهو يعبر عن جيله بإحساسه في المقام الأول ومسألة قوة وحلاوة الصوت اصبحت هامشية لا تؤثر في نجاح الأغنية .
هذا المصطلح المطاطي جدًا فتح بابًا لظهور أجيال متعاقبة من المؤديين لا يمتلكون موهبة الغناء، هذا الباب ظل مفتوحًا على مصراعيه حتى بعد إنتهاء هوجة موسيقى الجيل وتأثرت بها أجيال متعاقبة من المستمعين فأتلفت أذواقهم الموسيقية و تاهت صنعة الطرب واختلط الحابل بالنابل ما بين مؤدين يحتلون الساحة وما بين مطربين يبحثون عن أنصاف الفرص التي لا تتاح لهم ولم يقف تأثير تلك الموجة عند حد الغناء فقط بل تأثرت بها الألحان والأشعار فوجدنا جيل من الملحنين لا يجيدون العزف على أي اّلة موسيقية وشعراء يرصون الكلمات المقفاة بلا معنى ويطلقون على أنفسهم شعراء.
مطربو الأندر جراوند والخطاب الغنائي الصاخب.
جائت ثورة يناير 2011 وما تلاها من أحداث صاخبة لكي تعطل ماكينة الإنتاج الغنائي التجاري، مما فتح الباب للعديد من الحركات الفنية المستقلة التي كانت على هامش المشهد الغنائي لكي تحتل المشهد بالكامل مثل فرق الأندرجراوند ثم ظهر لاحقًا نمط موسيقي جديد عرف نفسه بالمهرجانات.
ساهمت العديد من منصات إستماع وتحميل الأغاني على شبكة الإنترنت في انتشار تلك الأنماط التي كان يقتصر نشاطاتها؛ اما على الحفلات التي يحضرها جمهورًا قليلًا كما في فرق الأندر جراوند او على الأفراح ووسائل المواصلات الشعبية مثل “التوك توك” والتي ساهمت بقدر كبير في إنتشار المهرجانات وخروجها من محيطها الشعبي الضيق.
هذا النمط الموسيقي المستقل والذي لا يتبع جهة إنتاج تتحكم في محتواه و يستمد ثقافته من ثقافة مؤسسيه وهي في الغالب ثقافة غربية، فهذه فرقة تقدم موسيقى الروك وتلك تغني موسيقى الجاز وأخرى تدمج العديد من الأشكال في بوتقة واحدة، بعد ثورة يناير 2011 خرجت تلك الفرق من مشهدها المنغلق لتحتل المشهد الرسمي ، وتماست بعض أغنيات الفرق مع أفكار الثورة واستمدت عوامل بقائها لفترة وصنعت جمهورًا كان يبحث عن من يعبر عن أفكاره المتمردة ويبرز له صورة الوطن الحقيقي فوجودا من يعبر عن المشهد بصدق في ظل خذلان بعض نجوم الغناء لهم بالوقوف ضد الثورة أو الصمت حيالها أو الركوب على الموجة بأغنيات مسلوقة تتبنى نفس خطاب الأنظمة القديم، وظهرت العديد من التجارب التي جعلت الجمهور يغض الطرف عن شكل أو اداء المطرب مادام يقدم ما يتماس مع أفكاره.
مطرب الثورة
من بين تلك التجارب هي تجربة “رامي عصام” الذي صعد إلي منصة ميدان التحرير وقدم نفسه على أنه مطرب وغنى للثورة والثوار، ليغتنم تلك الفرصة لاحقًا و يطلق على نفسه لقب مطرب الثورة ولم يكتفي باللقب فأصدر ألبومه الأول”منشورات” متزامنًا مع الذكرى الأولى لثورة يناير في 2012 متضمنا الأغنيات التي كان يغنيها في الميدان.
لم تخضع تجربة رامي للتقييم فمن عيوب ثورة يناير أنها صنعت لنا مطربًا من لا شئ تقريبا، فلقب مطرب الثورة سوف يمنحه بعض الحصانة لكي ينشذ ويعزف بصورة رديئة على جيتاره دون أن يقف مع نفسه ولو لبرهة لكي يتعلم العزف بصورة صحيحة أو يعطي لنفسه الفرصة كي يزداد خبرة فيما يفترض أنها اصبحت مهنته، وبالتالي أصبح مفروض علينا ولن يسمح لأحد بالهجوم عليه فسوف تلاحقه تهمة عداء ثورة يناير ومهاجمة أحد رموزها.
مريم صالح “مش بتغني”
من أهم التجارب التي ظهرت متزامنة مع الثورة تجربة مريم صالح والتي بدأت مشوارها الفني بإعادة تقديم تراث الشيخ إمام حتي أطلقت ألبومها الأول “مش بغني” ثم العديد من الأغنيات المنفردة حتى ألبومها الثاني” الإخفاء”.
اعتمدت التجربة في بدايتها على أغاني الشيخ إمام المحفورة في ذاكرة الأوساط الثقافية وتم الأحتفاء بها وبطريقتها التعبيرية، وبدأت مريم في التنظير لفنها المغلف بنزعة ثورية سرعان ماكونت جمهورًا يحكمه منطق وحيد هو الشلة.
في أحدى حفلاتها قدمت أغنيتها “وحدي” بأداء أقرب للصراخ منه للغناء، وتفاعل معها جمهورها بشكل هيستيري وازداد الأمر بكم التعليقات والمشاركات التي وقفت لكي تمجد في الأداء الغاضب الذي يعبر عن تمرد جيل بأكمله كنوع من تحميل تجربتها ما لا يحتمل، الحقيقة أن منطق جمهورها يجعلك تعيد التفكير في فكرة النسبي والمطلق في الجمال، وهل البشر لديهم المقدرة على رؤية الجمال حتى في القبح نفسه؟
المهرجانات وأنا جاي أكل عيش يا باشا.
يدور الحديث في الغالب عن موسيقى المهرجانات بأسلوب تنظيري بحت ، فالمهاجمون ينصبون أنفسهم أوصياء على الذوق العام من هذا الفن المنحط من وجهة نظرهم في حديثهم لغة متعالية على الطبقات الأقل منهم تدرجًا في المجتمع واصفًا مستمع المهرجانات بأنه شخص “بيئة” ، والمدافعون يحملوا مطربو المهرجانات ما لا يحتمل بالحديث عن ثقافة الهامش التي تبحث عن وجودها وسط مجتمع يلفظها، وأنها امتداد لحركات موسيقية ظهرت من قاع المجتمعات كما في أمريكا وأوروبا في محاولة لخلق وجود من العدم لتلك الموسيقى.
في ظل ثقافة صناعة الحدث “التريند” نمت موسيقى المهرجانات واصبحنا على موعد شبه يومي بتريند عن المهرجانات اما بمشاهدة صراع حمو بيكا مع مجدى شطة وانتظروني انا مش جاي، أو تجذب تعاطفًا نخبويًا بسبب منعهم عن الغناء، ويتحجج البعض بأن هذا الشباب من حقه أن يغني بدلًا من ينحرف ويضر المجتمع.
لست معني بمن يهاجمون المهرجانات الكارثة تكمن في بعض النخب التي تخشى الإتهام بالتعالي عليها فتجاملهم وتمنحهم الحق بالتعبير عن أنفسهم ولو بطريقة مسفة مبتذلة رغم أن تلك النخب نفسها تتعالى في خطابها على أوساطها الثقافية، وفي بعض النقاد الذين يحاولون نفاقهم ونفاق المجتمع بالحديث عن ثقافة الهامش وأن المهرجانات مستمدة من أصول الغناء الشعبي المصري وأن النقابة تتعسف معهم ولم يقف أحد ولو لبرهة لكي يقدم لنا تحليلًا نقديًا موضوعيًا عما تقدمه موسيقى المهرجانات.
والحقيقة لو سألت أي مؤدي لأغنيات موسيقى المهرجانات عن الفارق بين الذوق العام وثقافة الهامش سيرد عليك كما رد حمو بيكا على أعضاء النقابة التي رفضت إعطاءه تصريح بالغناء “انا جاي أكل عيش يا بيه” ببساطة هم غير معنيين بتفسير مايفعلونه سوى أنهم وجدوها الطريقة الأسرع والأسهل لكسب المال والشهرة لا يهم أن يطلق عليه لقب فنان او غيره هو غير معني بالفن أصلًا ولا أهميته ولا تصنيفه.
هل أصبحنا بلد بلا مواهب؟
انتشرت المهرجانات بالأساس لأنها استطاعت ملئ الفراغ الذي تركه ركود سوق الغناء التجاري وعدم تجديد دمائه وتخلي الدولة عن دورها الطبيعي في إكتشاف ورعاية الموهوبين، وفي ظل كلفة إنتاج زهيدة جدًا ومكسب سريع مضمون من الحفلات والإعلانات ومشاهدات اليوتيوب أصبحنا نرى كل يوم مهرجانًا سرعان ما يأخذ فترته ليحل مكانه مهرجانًا آخر.
لم تعد موسيقى المهرجانات ظاهرة بل أصبحت واقع ملموس احتل المشهد الغنائي بالكامل وأصبح التخلص منه أمرًا مستحيلًا ، للدرجة التي أثر فيها على سوق الغناء التجاري فنجد مطرب يشتكي على صفحته الرسمية من ان الجمهور أصبح يقبل على المهرجانات أكثر مطالبهم إحترام مجهودهم.
وهنا يأتي دور نقابة المهن الموسيقية التي لم تتحرك حفاظًا على الذوق العام بل حفاظًا على مصالح اعضائها من مطربين وملحنين بعد أن هددت المهرجانات وجودهم على الساحة الفنية، لسنا مع كبت الحريات وفرض رقابة على الفن في المطلق لكن لو مارست النقابة دورها من البداية بحيادية مطلقة وبشروط تطبق على الجميع دون مجاملة لما تفشت تلك ظاهرة موسيقى المهرجانات.
في الوقت نفسه فقد الجمهور ذائقته التي تم إفسادها عن عمد فأصبح لا يجيد التفرقة بين الفن الجيد والغير جيد وساوى بين الموهوب الحقيقي ومعدوم الموهبة، ولم يعد بمقدوره نقد وتقييم العمل الفني واكتشاف مواطن الجمال والقبح فيه، مما يجعلنا نعيد التفكير في تعريف جماليات الفن وماهي مفاهيمه وفقًا لما نراه من جمهورًا بالاّلاف في حفلات المهرجانات
اقرأ أيضا
الجانب الرحيم من وزير القبضة الحديدية .. نبوي إسماعيل
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال