همتك نعدل الكفة
1٬235   مشاهدة  

عيد رزق الله .. الموت على أوتار الحياة

عيد رزق الله


متى بدأ ومن أين جاء؟ لا أعرف في الحقيقة وأزعم أن لا أحد منا يعرف نحن الوافدين إلى طور سيناء، تلفتنا حولنا فوجدناه ببشرته شديدة السمرة وملامحه التي تتغير في ذاكرتك كصفحة ماء، وبنغمات السمسمية في المساء، كان هو أثر وتراث يسير على قدمين، ولكننا اعتدناه كما أعتاد أهل القاهرة النيل فلا يلتفتوا إليه، كان عم عيد رزق الله الرجل الذي نراه في كل مساء يسير أو يعزف أو يغني أو يرقص، والصباح كان يدفن من مات منا.

غريبة تلك الحياة لا تعرفها إلا بالموت، وهذا الرجل امتهن الموت والحياة في نفس اللحظة، أحد أبناء الحبة السمرا كما نلقبهم في طور سيناء ـ البدو أصحاب البشرة شديدة السمرة- قد يعرفون هم من أين جاءوا ولكننا صدقا لا نعرف تاريخهم، هم أبناء هذه الأرض صدقاً، بكل تفاصيل حياتهم بلهجتهم بأغانيهم بكل خلجة فيهم، ربما يحفظون البحر كما يحفظون الصحراء، ويغنون البحر والصحراء على أوتار السمسمية في كل مساء.

في الصباح يقوم عيد رزق الله بتغسيل الموتى ودفنهم وربما تشارك زوجته إذا كان نصيب الأرض اليوم سيدة، وفي المساء يجمع عم عيد رزق الله أفراد فرقته من البدو عازفوا السمسمية والطبلة والمطربين، ليحيوا حظ في بجوار بيت العريس أو كما يسمونه في البلدان الأخرى الحنة، كنت أعرفهم جميعه بالاسم ولكن الذاكرة تأبى أن تحتفظ إلا بأسماء بعض الذين زملتهم في الدراسة أو في قصر الثقافة منهم عبدالله جبنة نسيت اسمه الحقيقي كان زميلي في المدرسة الابتدائية وكان يعزف الطبلة قبل أن تحمله الحياة إلى مستقر لا أريد أن أتحدث عنه، وبالطبع محمد عويضة عازف السمسمية، كان صديقي بشكل أو بأخر ولكن شقيقه الأصغر سيد صياد السمك الموهوب مازال من أقرب أصدقائي، ومازلت أدين له بحياتي حينما أنقذني من الغرق منذ عامين حينما خالفت تعليمات الأطباء وغامرت بالسباحة لمسافة طويلة.

تلك الصحبة كانت تجتمع في كل فرح، ليكونوا هم دليل الفرح، في البداية كنا نسخر من عم عيد رزق الله الرجل العجوز الذي ينهض ليقف في منتصف الباحة ويرقص على أنغام الأغاني مثل عم يا جمال وغيرها، ليختتم الأغنية بالكف البدوي وينهيه بقبضة يده التي يضمها بكل حزم وحسم ليتوقف التصفيق فوراً، والويل كل الويل لمن لا يتوقف عن التصفيق مع تلك الإشارة، تكفي نظرة نارية واحدة من عم عيد ليشعر أنه أرتكب الجرم الأعظم.

YouTube player

كان سيد عويضه همزة الوصل بيني وبين هذا العالم، سيد متعهد الشاي الرسمي في ليالي الحظ، يأتي ومعه الشاي والسكر والباستله المعدنية وكوز معدني وبعض الأعشاب في قفص، وبجوار الصوان يجلس ويبني مرجل من الطوب ليوقد ناره وتدور أدوار الشاي على الحاضرين، كنت دوما صاحب نصيب الأسد، أجلس معه وربما اساعده في بعض الأشياء، شيئا فشيئا تركت سيد ودخلت إلى الصوان، ثم انضممت إلى الجوقة لأغني وأصفق كنت جالسا بجوار عبدالله جبنة حينما صفقت للمرة الأولى وأدركت قانون عيد رزق الله الصارم، واصابتني نظرته النارية حينما استمريت في التصفيق بعد قبضته، وقتها كانت نصيحة عبدالله (عينيك مع أيد عم عيد طول الوقت) حتى صرت من أفراد الجوقة يبتسم عم عيد حينما يراني في المرات التي أشارك فيها، قبل أن أترك كل هذا خلفي وأرحل للجامعة وأعود في الإجازات لأقابله وأجلس مع سيد.

متى بدأت حكاية عيد رزق الله في التحول لأسطورة، ربما منذ وفاة أشرف أبنه البكري، الرجل الذي مات لأنه لعب كرة القدم ليلا، فأصبح من المحرمات في بلدتي الصغيرة أن تلعب كرة القدم قبيل الفجر، تقول الأسطورة أن عيد رزق الله أقام ليلة حنة لأبنه البكري أشرف لم يراها أحد من قبل، وحنى يديه وقدميه بنفسه، وعقب انتهاء الحظ ذهب أشرف للعب الكرة مرة أخيرة قبل أن يغيب بسبب زواجه الذي كان سيتممه في الغد، يركض ويلعب ويتوقف لالتقاط أنفاسه وشرب المياه فيموت فوراً، يقولون إن الماء دخل الرئة فأختنق ويقولون إن القلب لم يحتمل المجهود، والمحصلة واحدة مات أشرف عيد، وفي الصباح بدلاً من أن يستعد لفرحه، كان البلدة تسير في جنازته ويقال أن عم عيد رزق الله غسله بنفسه، وكان هذا هو أخر من غسله عم عيد حتى وفاته.

تظل الحكاية تتناقل من شخص للأخر يضيف عليها أو يأخذ منها، ولكن الثابت أن عم عيد بعدها لم يقم بتغسيل أحد ولم يدفن أحد، فقط كان يحيى الأفراح لتتجاوز شهرته حدود المحافظة وتنتشر بين القبائل البدوية حتى الساحل الغربي للمملكة السعودية.

ليظل أسطورة، في إحدى الإجازات منذ سنوات قليلة، وفي صباح شتوي، لمحته يسير على الشاطئ وحيدا، وأنا كنت جالسا على الشاطئ أيضا، كان معي اللاب توب كنت أعمل، مستغلا هذا الفضاء الرحب والجو البارد والمناظر التي افتقدها منذ استقريت في القاهرة، رأيته يمر يلقى السلام على سبيل العادة دون أن ينظر إلى من يلقيه ذهبت إليه وصافحته وذكرته بنفسي وابتسم وسألني أين أنت فأجابته أعمل في القاهرة، فقالي جملة من كلمتين فقط (غريب من يومك) وسلم على مرة أخرى وأكمل المسير، لماذا تذكرت رواية هيمنجواي (العجوز والبحر) وقتها؟ لا أعرف حقيقة لا أعرف، ولم أعرف أيضا ماذا قصد بجملته هل أنا كائن أتصرف بغرابة؟ أم أنني غريب في هذه الدنيا بلا أقرباء أو أصدقاء موسوم بالغربة دائما.

إقرأ أيضا
صيد العقارب

حينما صارحت فؤاد صديقي أنني أنوي عمل فيلما وثائقي عن عيد رزق الله تحمس، ووعدته أن أجد من يمول الفيلم ومن يخرجه ولكنني فشلت وما أن لاحت الفرصة حتى حدثت فؤاد في أخر إجازة لي في طور سيناء (عايزين نروح لعمك عيد باليل) فكان الرد (الله يرحمه) وهنا أدركت أنني لم أزر بلدتي منذ عامين وأكثر، فقد رحل عيد رزق الله تاركاً كماً من الذكريات لا أنساها، وأغاني أحفظها وسؤال هو وحده يحمل إجابته هل أنا اتصرف بغرابة أم موسوم بالغربة؟ رحل العجوز وبقيته سيرته وأسطورته، رحل العجوز بقي البحر.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
32
أحزنني
3
أعجبني
4
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (3)
  • عم عيد كان ملك الطرب في جنوب سيناء والبحر الأحمر. ملك الطار. عم عيد الله يرحمه كان هذا سبب في اسعاد شباب الطور والحظ. وكان من ضمنهم المرحوم سيد موسى (سيد سلكه) عازف سمسميه وعم محمد حسين سمسميه وناس كتير من الطور قدام كانو هنا السبب في اسعاد الشباب والحظ بيبيقي والع بسبب الناس دول رينا يرحمهم

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان