
“فيها عبيد مناكيد وفيها السيد”.. ملخص شهادات مزارعين وعمال اليومية في مصر

-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
-
عبد الرحمن بشير
-
شهد موسى
لم تكن فاجعة فتيات العنب مجرد حادث مأساوي يُضاف إلى سجل الحوادث اليومية، بل كانت صدمة عرّت واقعًا قاسيًا تتجاهله العيون والقرارات. ثماني عشرة زهرة، خرجن مع أول ضوءٍ للعمل في الحقول، يقطفن ثمارًا لن يأكلن منها، مقابل أجرٍ لا يكفي لشراء دواء أو سداد دين.. لم يعدن.. وتركنا خلفهن سؤالًا يوجع القلب: كم فُقد قبل أن يُفجع المجتمع؟
لا تأمين لا ضمان لا حقوق
في مصر، آلاف الفتيات يخرجن يوميًا إلى سوق العمل، ليس طمعًا في رفاهية، بل للنجاة؛ يعملن في الزراعة، وفي التنظيف، وفي المصانع، وفي كل ما لا يليق بسنّهن أو بطاقتهن الجسدية. لا تأمين، لا ضمانات، لا حقوق، فقط تعبٌ متراكم، وصمتٌ رسمي، ومجتمعٌ يُشاهد بصمت.
في القرى المتناثرة بين الدلتا والصعيد، وفي قلب المزارع والمصانع والمشاريع الصغيرة، تتكرر الحكاية بصيغ مختلفة، ولأبطال كُثر، لكن الجرح واحد: أجسادٌ تعمل من الفجر حتى غروب الشمس، أيادٍ تزرع وتحصد وتغلف وتكنس، وفي النهاية… لا أمان، لا تأمين، لا غد مضمون.
ومن الدقهلية إلى الجيزة إلى كفر الدوار في البحيرة، تمتد الحكايات، وتتعالى الشهادات الحقيقية عن حياة تُشترى بيومية، وتُستهلك ببطء، فيما تظل الدولة غائبة، والقوانين غامضة، والمجتمع عاجز عن طرح السؤال الأهم: من يحمي هؤلاء؟
شيماء، 35 عامًا، واحدة من هؤلاء، اضطرت إلى العمل بعد هجر الزوج وتخلّيه عن الإنفاق على ابنتيها. تعمل 12 ساعة يوميًا مقابل 115 جنيهًا، وتتقاسم إرهاق المنزل مع شقيقها. تستفيق قبل الفجر وتعود في المساء منهكة، تقول: “مش قادرة أرتاح، بس لازم أشتغل عشان بناتي مايحسوش إنهم ناقصين حاجة”.
أسماء، 21 عامًا، تستيقظ في الرابعة فجرًا لتلحق بسيارة العمل التي تقلّها إلى التجمع الخامس، فيومها يبدأ قبل ضوء الشمس ولا ينتهي قبل خيط الغروب. تعمل في التنظيف أيضًا مقابل 113 جنيهًا، ورغم صغر سنها، ترى أن العمل ليس خيارًا بل قدرًا.
أما فاطمة، 42 عامًا، فتخوض معركة مزدوجة. معركة ضد الزمن وضد العوز. خرجت إلى العمل بعد سنوات في البيت، لتساعد زوجها في تعليم الأبناء، تعمل 12 ساعة في التنظيف مقابل أجر يومي، وتقول إن أصعب ما تواجهه ليس التعب الجسدي بل الإحساس الدائم بأنها على حافة الانهيار.
منار، طالبة في كلية الحاسبات، تعمل 12 ساعة في مزرعة، وتسافر 6 ساعات يوميًا، فقط لتساعد أهلها وتغطي مصروفات الكلية، تصحو في الثامنة وتعود في الحادية عشرة ليلًا، وتكاد لا تجد وقتًا لتأكل، كل ذلك مقابل 120 جنيهًا في اليوم.
وفاء، 15 سنة فقط، في الصف الثالث الإعدادي. تعمل في مزرعة عنب مع شقيقتها، مقابل 130 جنيهًا يوميًا، تستيقظ في الثالثة فجرًا وتبدأ عملها في السادسة، في ظروف لا تليق بطفلة، تقول: “بنشتغل عشان نصرف على البيت.. بابا تعبان ومابيشتغلش”.
أسماء، 19 عامًا، أنهت دراستها واتجهت للعمل فورًا، تجهيزًا لزواجها ومساعدةً لأسرتها، تعمل 13 ساعة يوميًا مقابل 66 جنيهًا فقط. لا تأمين، لا راحة، فقط جهد يُستهلك، وحياة تُقايض.
آية، طالبة إعلام، جمعت بين العمل والدراسة. تعمل “تيلي سيلز” وتستيقظ في الخامسة فجرًا وتعود في آخر الليل، وتقول إن الامتحانات كانت تُخاض بلا نوم، فقط بالقوة والإصرار، أجرها اليومي 150 جنيهًا، أكثره يذهب للمواصلات.
أما في إحدى قرى مركز كفرالدوار التابع لمحفظة البحيرة فقد قال أحمد الذي يرى العمالة في الأراضي الزراعيه التابعة لقريته والقرى المجاورة وخاصة النساء منهم يأتين من قرى تابعه لمركز أبو حمص الذي يبعد ٣٠ دقيقه على الطريق مما قد يصل إلى ساعة محملين على عربات النصف نقل واصفا إياهم”زي البنات اللي ماتو في المنوفيه” يأتين للعمل في محصول الفاصوليا ليتقاضين على الأكثر ١٢٠ جنيه بناءً على الحساب الكيلو ليكون الكيلو مقابل ٢ جنيه.

أما عن أحمد نفسه ففي إحدى قرى مركز كفر الدوار، يتحدث أحمد عن تجربتين مريرتين: كعامل زراعي وكعامل في شركة أدوات صحية. في الزراعة، كانت يوميته 170 إلى 200 جنيه من الفجر حتى الظهر. أما الفتيات العاملات في الفاصوليا، فيُحسب لهن بالأجر على الكيلو الواحد: “2 جنيه لكل كيلو.. والبنت الشاطرة ممكن تلم 60 كيلو، يعني 120 جنيه في اليوم”.
أحمد: “وقعنا على عقد.. واستقالة في نفس اللحظة”
حينما تطرق أحمد للحديث عن عمله في المصنع، كشف لنا وجهًا آخر للاستغلال: “الشركة خلتنا نوقع عقد عمل، ومعاه استقالة. بنشتغل بأساسي 1600 جنيه، عليه 600 بدل. القطعة اللي بلونها بـ56 قرش بس.. الشغل كله على مجهودك”.
رغم ساعات العمل الطويلة، لا تأمين حقيقي، المواد المستخدمة في الرش والتلوين تؤذي التنفس، ولا يُسمح بالشكوى، “لو اشتكيت.. استقالتك جاهزة، واحد قريبنا اشتغل هناك واتأذى في أعصابه ولسه بيتعالج”.
يختم أحمد كلامه بحكاية عن شقيقه، الذي يعمل في شركة طرق بالقاهرة، ويتقاضى راتبًا مشابهًا، لكن دون تأمين اجتماعي أو طبي، مؤكدًا : “في الورق هو مش موجود، بس على الأرض هو اللي شايل الشغل”.
الرجال أيضًا لا يختلف حالهم كثيرًا، ففي قرى نبروه وأطفيح وكفر الدوار، يتقاضى العامل الزراعي بين 120 و170 جنيهًا يوميًا. النساء يحصلن على أقل، رغم أنهن يعملن بالساعات ذاتها، وفي بعض القرى، يُحاسبن بالكيلو: جنيهين لكل كيلو فاصوليا، والعمل قد يستغرق النهار كله مقابل 120 جنيهًا فقط.
مصطفى: «الشغل موجود.. بس الحياة مش ماشية»
في إحدى قرى مركز نبروه بمحافظة الدقهلية، يتحدث مصطفى عن العمالة الزراعية وكأنها مصير أكثر منها مهنة.
يقول: “إحنا دلوقتي بنشتغل في زراعة الذرة والأرز.. ودي من أكتر المحاصيل اللي بتتعبنا. من 5 الصبح لـ10، ويومية العامل بتتراوح بين 120 و150 جنيه، وممكن تزيد في مواسم الحصاد الشاق زي القطن أو الذرة”.
مصطفى لا يتكلم عن “العمل” فقط، بل عن معادلة غير عادلة بين الجهد والأجر. يتذكر تجربته الشخصية في العمل بإحدى مزارع العنب على طريق مصر-إسكندرية الصحراوي قبل سنتين، ويقول: “اشتغلت 8 ساعات في اليوم، خدت 150 جنيه، وده كان يوم مريح بالنسبة لي! العنب بيجيب، بس الأجسام بتتهد العمل ليس اختيارًا، بل وسيلة للبقاء، أما الأمن الوظيفي أو التأمين، فـ”كلام جرائد” على حد وصفه”.
عبدالله: “الست بتشتغل أكتر.. بس تاخد أقل”
من قرية تابعة لمركز أطفيح بالجيزة، يتحدث عبد الله عن الفجوة بين أجور الرجال والنساء في الأعمال الزراعية فيقول: “الراجل ممكن يوصل يوميته لـ300 جنيه لو بيشتغل كمزارع، مش عامل. لكن الست أقصى حاجة تاخدها 180، مع إنها أحيانًا بتشتغل أكتر”. ويُرجع السبب إلى طبيعة العمل: الرجل يُكلف برفع التربة وتجهيز الأرض، بينما تُكلَّف المرأة بجمع المحاصيل أو فرز البصل. “الستات بيتحاسبوا باليومية، بس أغلبهم بيشتغلوا ساعات أطول وبيتواجدوا بكثافة.. ومع كده المرتب أقل”.
قرى أطفيح، كما يقول، تشتهر بزراعة النخل، عمل موسمي مرهق، يحتاج إلى عناية طوال العام، يُحاسب فيه العامل بـ10 جنيهات لكل نخلة. أما النساء، فيُوظفن لفرز التمور ساعات طويلة دون تقدير فعلي للجهد المبذول.

سيف: “المرتب على الورق.. والوجع على الجسد”
في مصنع مفروشات بكفر الدوار، يعمل سيف في قسم التعبئة والتغليف. “اللي عنده حظ واشتغل بعقد، يبقى كويس، حتى لو وقع استقالة مع العقد، في غيره بيشتغل من غير تأمين، ومن غير عقد، وبياخد أقل”.
ساعات العمل 8 يوميًا، لكن لا يُسمح بالجلوس حتى لو ما فيش شغل. يوم راحة في الأسبوع، ونصف ساعة راحة خلال اليوم، ويستكمل: “المرتب 3600 جنيه، بس بيمصوا روحك. ولو فيه ضغط شغل، الساعات الإضافية تبقى إجبارية، مش اختيارية زي ما بيقولوا”.
عند سؤاله عن التفتيش من مكتب العمل، يضحك: “يعني هما مش عارفين؟ أول ما نسمع إن في تفتيش، بيخبوا البضاعة في مخازن بره، ويخبوا عمال اليومية اللي مالهمش تأمين”.
“نظام اليومية”: استنزاف بأجر
التحقيق يكشف وجهًا موحشًا لسوق العمل المصري: لا عدالة في الأجور لا مساواة بين الرجل والمرأة لا حماية للعامل ولا دور فعلي للمؤسسات الرقابية، وجميع من تم الاستماع إليهم وقعوا تحت مظلة “اقتصاد اليومية”، حيث يتم تقييم الإنسان بما ينجزه في 8 أو 12 ساعة، لا بما يستحقه ككائن حي له احتياجات صحية ونفسية واجتماعية.
المرأة تُوظف أكثر.. وتُدفع لها أقل. العامل يوقع عقدًا واستقالة في نفس الوقت. التفتيش مجرد بروتوكول.. و”الاستنزاف” هو القانون غير المكتوب، ونحن “في انتظار دولة تنظر إلى يد العامل”، فحين يموت الفقراء في حادث، نحزن يومًا، ثم ننسى. لكن الحقيقة أن هناك من يموتون كل يوم بالبطيء، داخل مزارع، ومصانع، وشاحنات، ومكاتب لا نعرفها. العدالة الاجتماعية لا تعني فقط راتبًا مناسبًا، بل تعني احترام العامل، وحماية جسده من الفناء، ونفسيته من الانكسار. والسؤال هل نمتلك الشجاعة لنسأل: من يحمي هؤلاء؟ أين دور الدولة؟ وأين صوتنا نحن؟.
اقرأ أيضًا : لماذا ينجح محمود سعد ويفشل معدومي الخيال !
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
-
عبد الرحمن بشير
-
شهد موسى
ما هو انطباعك؟







