همتك نعدل الكفة
164   مشاهدة  

فرح أنطون.. حياة ملتهبة لا تعرف حدًا للحرية و الفكر

فرح أنطون
  • مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



كالشهاب ظهر في السماء مرّ سريعًا واختفى، أدرك أنّ حياته قصيرة لذلك كان يكتب، ويقرأ، ويقول، ولا يضيع الوقت أبدًا، ذاب ذوبانًا في حب الديمقراطية والعلم والتقدم، كان يصوغ نسمات حياته كلما كان يدعو إلى الحقيقة .

حياة متقدة
عاش ” فرح أنطون” حياته متقدًا يريد أن يقول كلمته بأسرع ما يمكن، وكأنه كان يحس أنه سيمضي سريعًا، قال عنه مارون عبود:” أن يكون الإنسان ثوريًا نشيطًا فهذه مسألة محتملة لكنه كان اشتراكي محموم حرارته دائمًا فوق الأربعين “(1) .

وإن كان قد مضى سريعًا، فإننا لا نستطيع أن نجاريه في سرعته، بل يتعين علينا أن نتوقف طويلًا، محاولين أن نتأمل في تأن ظاهرة فكرية فذة، تفجرت سريعًا وحَبت سريعًا.

حياة قصيرة شديدة الثراء

وُلد” فرح أنطون” في طرابلس ١٨٧٤م، و تخرج في مدرسة كفتين، تاجر مع أبيه في الأخشاب، ثم استقل بتجارة لنفسه لكنه ابتعد عن هذه المهنة؛ لأنها لا تتفق مع ذوقه، ولأن الأخلاق اللازمة للتجارة ليست فيه ، ولان نفسه كانت تميل إلى الأعمال العقلية(2) .

تولى إدارة مدرسة أهلية في طرابلس أنشأتها جمعية خيرية للروم الأرثوذكس، وتركت هذه المدرسة أثرًا في نفس “فرح” الذي أحسّ معنى التخلص من التعصب، فلم تكن مدرسة طائفية، فرئيسها بروتستنتي والمدير والناظر مارونيان وأستاذ اللغة العربية مسلم، ولم يكن بها سوى معلم أورثوذكسي .

قال فرح عن تجربته في هذه المدرسة:” إن هذه المدرسة قد تركت أثــرًا أدبيًا لم يبرح نفسي قط ، ولعله كان ذا تأثير على أفكاري في كل حياتي ” (3).

تأثره بالفرنسية
كان فرح أنطون مولعًا بالآداب الفرنسية، فيخبرنا عن نفسه أنه صرف عمره يدرس الفرنسية ، وقرأ فيها ما لا يقرأه غيره في مائة سنة، ولم تقتصر مطالعاته فيها على ما أنتجه أبناؤها، بل شملت جانبًا مما نقل إليها من آداب الألمان والإنجليز والروس فكانت له ثقافة غربية متسعة إضافةً إلى ثقافته العربية والشرقية، وهي في جوهرها عقلية أكثر منها أدبية، فقد كان ينزع إلى حياة الفكر، فيعنى بالفلسفة والتاريخ والاجتماع والدين وإن لم يهمل الأدب والفن ولاسيما القصص والتمثيل”(4).

وهذا ما نجده عند “فرح أنطون” في بحوثه وقصصه، فقد كان متأثرًا بروح الثورة الفرنسية، على ما فيها من حسن وقبيح، يلذ له أن يشاكس رجال الدين، وأصحاب الأموال، وينادي بالمساواة وحرية الفكر وحقوق الإنسان ، و لكنه لا يتنكر لسنة تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي، وسيادة الأفضل.

فليحذر العالم من يوم يصير فيه الضعفاء أقوياء والأقوياء ضعفاء

ونرى ذلك في كتابته عن” ابن رشد” معجبًا بآرائه في أزلية المادة، ملخصًا أقوال” رينان” فيه ، ويتطرف إلى بحث ديني جعل الشيخ محمدًا عبده يناظره فيقول عن إحدى مناظراته بينه و بين الشيخ:” أذاب نفسه تمامًا في هذا الحوار، وعصبت رأسي كما يقال ، وانصرفت ثلاثة شهور إلى درس هذا الموضوع وحده ، حتى فقدت النوم والقابلية الأشهر الثلاثة المضنية التي صرفها صرح في محاورة الأستاذ الإمام”، وقيل عن هذه المناظرة:” لا شبيه لها في التاريخ إلا مناظرة الخوارزمي و الهمذاني” (5).

أثقل “فرح أنطون” معارفه بقراءات واسعة من كتابات” روسو ، رینان، فولتير ، کونت ، داروین ، نيتشه، کارل مارکس ، تولستوي ، ابن رشد، ابن طفيل ، الغزالي، عمر الخيام وسواهم وتنقل بينها جميعًا يعجب ، بهذا وذاك في آن واحد، وتعذبه حيرته بين هؤلاء جميعًا ، كل منهم فيه شيء يريده، وشيء آخر يرفضه، وتمزق بينهم(6) .

بين أروقة الفلاسفة
يمكن القول أن ” فرح أنطون” أول من عرف العرب بالفيلسوف الألماني” نيتشـة”، وأول من عرفهم أيضًا بالمعلم كارل مارك، وفي هذا يحتار”فرح” بين هذا وذاك وبينما هو يصار الموج في لجة أفكار نيتشه في قصته” العالم الجديد أو مريد المجدلية” حيث يقف شيشرون لبلقى خطبًا مستوحاة من “نيتشه” في تحقير الضعف واحتقار الرحمة وتعظيم القوة، فإذ به يتوقف عن نشر هذه الرواية واعدًا بطبع تتمتها على حدة ، ثم يسرع إلى نشر رواية ملفًا لمكسيم جوركي، وهكذا التقى الصيف والشتاء(7) .

كما كان” فرح” يميل إلى رأي ” الغزالي” في فصل الدين عن الفلسفة لأن الدين ينبثق من العقل بينما الدين من القلب، و لخصّ” فرح” تاريخ المسيح، وأعمال الرسل لرينان، وتحمس له كثيرًا وانتحل مذهبه في إنكار المعجزات ، كما كان يؤثر الاشتراكية الإنجيلية على الاشتراكية المادية(8) .

الصحافة و الأدب في حياة فرح
أسس” فرح أنطون” في طرابلس أسس جمعية أدبية، بعد أن استقر رأيه النهاية على أن يتخذ صناعة القلم حرفة شريفة، وهو يعتق أنها خير ذريعة لخدمة الشرق، ويظن أن صرير القلم خير صارخ في الآذان لإيقاظ أهل الأوطان الشرقية، وكان يعتقد أنه مجند من المجندين لهذه المهمة، وحتى ينفذ هذه المهمة انتقل إلى مصر، فهي المركز الأوسط لجميع العالم العربي ومنه تنتشر الخدمة الوطنية الأدبية انتشار الأشعة إلى جميع الجهات فانتقل إلى الاسكندرية عام 1897م.

بعد انتقال فرح أنطون إلى الإسكندرية، بدأ بالكتابة بأسماء مستعارة في عدد من الصحف، ومن أشهر مقالاته في ذلك الحين مقال نشره بالأهرام بعنوان” دائرة الحق ، ووقعه باسم سلامة” .

ثم بدأ في إصدار مجلة “الجامعة” في ۱۸۹۹م ، وفي البداية أسماها” الجامعة العثمانية”، داعيًا على صفحاتها كل شعوب الشرق التي تحكمها الدولة العثمانية للعمل المشترك ضد الغرب الاستعماري، لكنه كان أيضًا فوق صفحاتها علوم الغرب وكثيرًا مما يتردد فيه من آراء ومذاهب ، فكان فرح شرقيًا يكره أوروبا، لكنه يحب الكثير من عقائد الغرب الاجتماعية.

لا تقل هاتوا زعيمًا صادقا ، بل قل هاتوا شبا راقيًا وأنا الكفيل بزعيم حر من بين الحقول وأكواخ الفقراء.

وازدهرت” الجامعة” ازدهارًا غير متوقع، ولقي الأدباء والمفكرون في هذه المجلة الطريفة معنى ومرتعًا، فقالوا عنها:” تجلى لهم فيها الابتكار في موشى أثوابه، ومبهج ألوانه ولقد ثقل ردنها بالفوائد وأوعيت صفحاتها الجلائل بالطرف وشهي الثمرات ، بحيث ارتفعت في أعداد معدودات إلى مرتبة أقدم المجلات العربية وأوسعها وأذيعها ، ثم نمت و أوفرت ، بحيث صارت شغل المفكرين ودأبهم، وسوق عكاظ لرجالات العلم والحكمة فيها يتساجلون ويتنافرون “(9) .

إنّنا لا نريد أن نعرف حدًا لحرية الفكر والنشر، مجلّتي “الجامعة” إنّما تكتب بلذّةٍ في الكتابة ولا جزاء لها غير هذه اللذّة .. فيوم يُقال لها قيّدي قلمك قليلًا تُفضّل تركه على تقييده، إذ لا يبقى في حياة الكاتب من اللذة ما يساوي العناء… فرح أنطون

وكانت” الجامعة ” مجلة أصحاب المبادئ الجديدة والذين حرروا عقولهم من القديم، وكان صاحبها يحاول بها تحرير العقول الشرقية، والمذاهب الاجتماعية من رق الماضي ، ففاز بعد نضال كبير وأوجد حزبا كبيرًا يناصره وهو حزب العصر الجديد عصر الانطلاق والإفلات من كل قيد إلا ما يأمر به العقل والاكتشاف(10) .

لمّا انتقلت جريدة الأهرام من الإسكندرية إلى القاهرة، طلب منه “تقلا” باشا أن يتولى تحرير صدى الأهرام بالإسكندرية قلبي الطلب على وعد أن الباشا يبيعه إياه متى استتب أمر الأهرام في القاهرة فبقى يحرر الصدى مع الجامعة نحو ستة أشهر ثم رأى تقلا باشا أن يلغي الصدى بتاتًا فألغاه، فيقول “لطفي جمعة” أن فرحًا حرر صدى الأهرام في الإسكندرية حتى كاد الصدى يتغلب على الصوت في القاهرة فانتزعه منه من يملك الاثنين معا(11) .

قالوا عنه
يقول رفعت السعيد في ” فرح” :” فرح أنطون ابن تاجر من طرابلس يذوب ذوبًا في حب الديمقراطية والعلم والتقدم ويصوغ كل نسمات حياته كلمات يدعوا بها للحقيقة.

أفندي طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة العامة
بينما يقول عباس  العقاد:” لقد رأيت فرحًا مرارًا، ولكني لم أكلمه إلا مرتين أو ثلاثًا وكانت مرة منها في مكتب الأهالي.. إذ كان يعمل في تحريرها فتلاقينا في غرفة الأستاذ صاحبها وتعارفنا على يديه فسمعت من نبرة صوته وفاق ما رأيت من خشوع نظرته وأحسست موضع دائه ففلت له مؤاسيا وكان كلامنا على نهضة السياسة .. إنك يا فرح أفندي طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة العامة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر وسنكون حين يفترق الطريقان خيرًا مما كنت في هذا الملتقى المضطرب .. فأومأ برأسه إيماءه شاكرة وحرك يده حركة فاترة وقال إنه يا أخي تيار جارف فمَا يحفل المستقبل بالحاضر وماذا يبالي السائر للغد بمن كان قبله في مفترق الطريق.

من ضوء عينيك من دم فؤادك
يقول ايصائيا عبود عن ” فرح” “ايه ايه يا فرح أنت ما أنت ، أنت مشيت إلى الخلود على ضوء براعتك .كفروا كفروا الأولى ما دعوك رسولًا وجهاد الرسولي يعبق به شق قلمك. وإن لفي كتبك وبين تضاعيف سطورك تلمع أمضى السيوف نضالات وانتصارات و دفاعًا.

كم سكبت من روحك! من ضوء عينيك.. من دم فؤادك ! إنك لمن على درجات التضحية حملت كلمة البشارة إلى بني جلدتك.. بيمينك حبكت إكليلك الخالدة.. بريشتك الساحرة طرزت ثياب العرس فأدخل إلى فرح ربك.

وفاته
بعد وفاته في 1922م قاله عنه سلامه موسى: إن الفراغ الذي أحدثته وفاة فرح أنطون في الأدب العربي لن يملأه أحد في أيامنا الهوجاء هذه، فقد كان فرح كاتبا يعيش ليكتب ويكتب ليعيش، فهو أول من أنشأ مجلة أدبية تقتصر على الأدب هي مجلة الجامعة، وإني لا أذكر تلك الساعات اللذيذة التي قضيتها في المكتبة الخديوية أطالع مجلداتها الممتعة.
وقد تركت إذ ذاك في نفسي أثرا شبيها بذلك الأثر الذي يتركه دين جديد في قلب حديث الإيمان به، فكانت تعالج في صدري لواعج وإحساسات غامضة وتنفتح أمامي أبوب تترك في نفسي شيئا أشبه بمقام الكشف عند الصوفية.
وقال عنه مصطفى الرافعي:
على فرح فليحزن الشرق حزنه

مصادر ومراجع

إقرأ أيضا
مهرجان العلمين

 [1] مارون عبود، جدد وقدماء، دار الثقافة، بيروت، ط/1، 1954 ص35

[2] رفعت السعيد، ثلاثة لبنانين  في القاهرة، دار الطليعة ، بيروت، ط/1، 1973م، ص78

[3] فرح أنطون، مناهل الأدب العربي، مكتبة صادر، بيروت، ط/1، 1950، ص 3

[4] مناهل الـأدب( مرجع سابق) ص7

[5] ثلاثة لبنانين في القاهرة( مرجع سابق) ص70

[6] ثلاثة لبنانين في القاهرة( مرجع سابق) ص78

[7] ملحق مجلة السيدات والرجال مج 1923 ص10

[8] مناهل الأدب ( مرجع سابق)  ص7

[9] أحمد أبو الخضر منسي، فرح أنطون، مطبعة الاعتماد، بيروت، ط/1 ،1923م ص20

[10] مارون عبود (مرجع سابق) ص25

[11] ثلاثة لبنانين في القاهرة ( مرجع سابق) ص80

الكاتب

  • فرح أنطون مي محمد المرسي

    مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان