همتك نعدل الكفة
381   مشاهدة  

فقدان المعنى .. قصة قصيرة

فقدان المعنى


رتابة الحياة قاتمة، ما زال اللا شيء يتجلى أمامي على الواقع فيفقده المعنى، وفي غياب المعنى تضمحل القيمة، وباضمحلالها يتساوى كل شيء، الظلام والنور، الإيمان والكفر، كل شيء ونقيضه يساويان عندى صفرًا كبيرًا، وخروجي من هذا المكان مرهون بكذبة لا أستطيع إطلاقها.

قطع خياله العدمي صوت طرق على الباب، تلاه دخول “دنيا” الممرضة الفاتنة، ذهب إلى حيث يجلس إلى الأرض في آخر الغرفة، وجثت على ركبتها اليسرى وقدمت إليه ابتسامة خلابة خلاقة، وفتحت كفها الأبيض الرقيق فظهرت عنه حبة بيضاء صغيرة مستديرة ويمناها تحمل زجاجة مياه، نظر فى عينيها اللتان سرعان ما هرب منهما وقال: لا أريد علاجًا، ولا أريدك أن تدخلي عليَّ ثانية.. ثم أتبع بانفعال: لماذا أنا هنا؟ الغريب أنكم تعزلونني عن العالم رغم عزلتي الطوعية عنه، فهل أصابكم الخبل؟.. ليس بعد، قالها الطبيب الواقف على باب حجرة العزل وهو يطالع مشهد الحب المتجلي من ممرضته تجاه الناقم على الحياة والبشر.

نظر إليه “جلال” وقال: لولاك ما كنت هنا. فأجابه: بل ما كنت حيًا من الأساس.. واستطرد: تناول علاجك وأعدك بفنجان قهوة. نظر الاثنين لبعضهما طويلًا بينما تجلس “دنيا” على ركبتها تحملق في وجه جلال، الذي نطق أخيرًا: فى الجنينة؟ ابتسم الطبيب قائلا: لك ما تريد.

مر نحو ثلاثين يوما على وجود جلال، داخل غرفة العزل. لم ينبس خلالهم بكلمة واحدة، سبقها رفض للعلاج مرات، والانصياع له مرات أخرى، والعزوف عن الطعام أيامًا، والأكل بنهم وشراهة أيامًا أخرى، فقد خلالهم الشعور بالزمن، فلم يعد يعلم فى أي يوم يعيش، صباحًا أم مساءً، ولا حتى بأي فصل تمر الدنيا.

نزل إلى حديقة المستشفى، هي منتجع صحي رائع، كبيرة ومنظمة، يغلب عليها لون الخضرة. كانت الشمس مشرقة، اسدلت ستائرها على كامل المكان، واخترقت أشعتها أوراق الشجر. هو يعرفها تماما فقد شارك في بنائها كضلع رئيس في تكوينها الفريد، بحكم مهنته فيها كطبيب نفسي قبل أن يفقد المعنى.

وقف أمام شجرة زاهية، واضعًا يمناه على يسراه فوق صدره، ناظرًا إلى تشابكات فروعها، متأملًا الأوراق وخطوط الشمس. قاطعه صديقه “إحسان” المتسبب في حبسه داخلها كما ينعته دائمًا: كنت متأكدًا من أنك ستقف هنا.. التفت إليه واضعًا يداه خلف ظهره وقال: أنت تؤمن بالموت الرحيم، لماذا لا تتركني أرحل؟ رد مداعبا: قصدك تنتحر! عموما القانون المصري لا يعترف بالموت الرحيم، ولا تقل لي إنك ستسافر إلى بلد تقره، لقد بدأنا كل شيء معًا، ولا يحق لك الانفصال بشكل فردي.

كان جلال، طالبًا متميزًا في كلية الطب جامعة القاهرة، التي تخرج فيها. عمل معيدًا لمدة عام واحد، ثم استقال وأنشأ عيادته الخاصة التي عمل فيها لمدة عامين فقط كطبيب للأمراض الباطنية. اكتشف خلال تلك الفترة أن ثمانين بالمائة من مرضاه يعانون نفسيًا، فيصابون بآلام باطنية لا يملك علاجها، ومن هنا قرر أن يدخل عالم الطب النفسي، فحصل على ماجيستير علم النفس من جامعة القاهرة، وأثناء تجهيزه للدكتوراه، أنشأ مستشفى “نور للطب النفسي” والتي يقطنها اليوم كمريض وليس طبيبا كما كان..

جلس جلال على إحدى الأرائك متكئًا على ساقيه الطويلتين ينظر في عين العدم. فجاءه “إحسان” آخذًا نفس الوضعية، ناظرًا إليه قائلًا: أنت تؤلمني كثيرًا يا صديقي..

– رد جلال بسخرية: ما زلت تشعر؟ هذا أمر جلل!  

– أولم أكن أشعر من قبل؟

 – أقصد.. لكني أتعجب!

– من ماذا؟

– من هذا الأمل الزائف الذي ما زال يداعبك.

– ماذا أصابك يا جلال؟ كيف يموت فيك الأمل بتلك السهولة؟

إقرأ أيضا
الونس

تنهد بعمق يحمل كل الألم، ثم قال: إنه المعنى.. المعنى الذي قال فيه ابن عربي “كلما اتسع المعنى ضاقت العبارة”.. لكنه لم يقل شيئًا عن وضع العبارة مع موت المعنى! نحن نحاول يا صديقي أن نخفف أعباء الناس، لكن العبء نفسه أصبح ضئيلًا أمام آلام البشر.. العالم أصبح غابة مفتوحة، يحكمه مجموعة من المجرمين، كلما انتبه الناس إلى حفنة منهم، تجلت أخرى، فلا تستطيع الجزم أيهم أشد إجرامًا؟ ومن الذي يحرك هؤلاء القتلة بكل هذه الوحشية للتعذي على أبدان الناس المتهالكة، وأرواحهم المنهكة، وأحلامهم البائسة التي هي في حقيقتها حقوق مفروغ منها.. تمتم إحسان ليتكلم، فقفز هو داخل فمه واستتبع حديثه: أهم الاقتصاديون الذين قتل رأس المال شعورهم؟ أم الساسة ملاك السلطة والسطوة؟ أم أصحاب النفوذ متعدد الأقطاب؟ أم الفنانون بتعريضهم للأمور فيظهرونها على غير حقيقتها؟ أم الإعلاميون أم الرياضيون أم العسكر؟ المعنى تتكشف قيمته في الإنسان الذي أصبح أسير اللا شيء!

احتضن جلال فنجان القهوة بكلتا يديه وأخذ يرتشف منه.. فسرق إحسان الحديث منه وقال: إن حسنّا حياة إنسان واحد فقط، فقد أدينا رسالة. رد جلال، بسخريته المعهودة مؤخرًا وقال: هذه رسالتك أنت، أما أنا فلن أعمل على إصلاح ترس في ماكينة عملاقة، لو تم الاستعناء عنه فلن تعطب الماكينة من الأساس!

انتفض صديقه من مقعده ومضى إلى الأمام خطوتين، ثم وضع يده داخل البالطو الأبيض الذي يرتديه وقال دون أن يلتفت إليه: الباب مفتوح، إذا أردت أن تخرج فلن يمنعك أحد، وكذلك باب غرفة العزل!

الصراعات داخل جلال توهجت أكثر، وشعوره بالألم زاد أو خبى، هو نفسه لم يعلم.. عاد جلال إلى غرفة العزل، بجسد مهترئ، وروح مستسلمة، وفكر مشتت. دخل عليه إحسان، فرمقه جلال، بنظرة ذات معنى.. فقال إحسان: لن يغلق عليك باب، ولن يمنعك أحد من الآن، متى تحب أن تباشر عملك؛ افعل، ووقتما تقرر الرحيل؛ نفذ، لكن لطالما أنت هنا، فانت مريضي.. واحتضن مقبض الباب وأغلقه ورحل..

* دخلت عليه “دنيا” تلك الفاتنة التي استنطقه حضورها. كانت تلك المرة أشد فتنة، شعرها منسدل، ملفوف حول محيط الرقبة، منتهٍ طوله عند الكتفين، وعيناها الخضراوان ينفذ منهما شعاعًا اخترق كاملهُ وكلهُ، وعلى غير العادة ارتدت زيا غير رسمي. فستانًا أنيقًا مفروشًا بالورد كلوحة فنية هي أرضيتها، وجسدها البض ينبض بالحياة وكل الغواية، ونهديها مكشوف عنهما، يقبل كل منهما حواف الأخر، بينما يتدلي عقد مرمري رائع، بدأت عنده المواقيت والحساب.. مالت عليه راكعة على ركبتيها ويديها ناظرة في عينيه بتمنٍ قائلة: أحبك وأنت تعلم.. نظر هو في عينيها مليًا.. ثم زاغ بصره نحو نهديها الراكعين كركوعها.. فحدث نفسه: ما زالت الحياة تغريني بالمادة رغم انعدام المعنى.. ثم نظر عن يمينه نحو حبة الغلال التي استطاع جلبها سرًا من أجل الانتحار، وأطبق يده عليها، ثم وضع يسراه على ظهرها، فضغطت على شفتيها ومالت عليه أكثر.. جذب الفستان نحوه كاشفا عما تحته، فانبعث نور من حسن جسدها الممتلئ، ففتح كفه ناظرا إلى حبة الغلال، وإلى ذاك النور المنبعث من تلك الحسناء، وأطلق ضحكة ساخرة مصحوبة ببكاء مميت.






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان