فنار بورسعيد .. تاريخ مهمل !!
-
هاني عبد العزيز
باحث فى التاريخ والتراث مؤسس صفحة سيرة المحروسة على فيس بوك
يعد فنار بورسعيد واحدا من أهم المعالم السياحية ببورسعيد ويعتبر أثرا تاريخيا وقوميا ودوليا وترجع أهميته التاريخية حيث يمثل نموذجا فريدا للعمارة شاهد على هندسة البناء المتقدمة فى أواخر القرن التاسع عشر .
تم تشييده من الصخور الصناعية ( الخرسانة المسلحة ) كأول مبنى خرسانى فى العالم حسب ما جاء فى كتاب ( بورسعيد عمارة القرن التاسع عشر والقرن العشرين ) تأليف ماري لورى كرونييه لوكرنت ، جمال الغيطانى ، نجيب أمين تم اهداء الكتاب إلي محافظة بورسعيد من أعضاء معهد شابو وجامعة تور الفرنسيين ويوثق هذا الكتاب التاريخ المعماري لمدينة بورسعيد باعتبارها من اهم المدن العالمية.
ويعد فنار بورسعيد أعلى مبنى فى المنطقة الواقعة ما بين شاطىء البحر المتوسط شمالا حتى القاهرة جنوبا والأسكندرية غربا وحيفا شرقا حينذاك حيث يبلغ طوله 56 مترا وهو من أقدم مبانى الخدمة المدنية لسلامة الملاحة البحرية فى العالم .
وقد كان للفنار ميزة أخرى علاوة على ارشاد السفن فكان يعطى بيانا دقيقا للتوقيت ثلاث مرات خلال النهار عند الساعة السادسة صباحا والثانية عشر ظهرا والسادسة مساءا عن طريق كرة سوداء ضخمة على سارية عالية موجودة بأعلى الفنار ترتفع ثم تحدث دوى ناتج عن سقوطها بفعل هواء الاستيم يسمعه كل أهالى بورسعيد قديما .
يقف فنار بورسعيد شامخا عند نهاية حاجز الأمواج الغربى للقناة يطل بواجهته الرئيسية شرقا على ميناء بورسعيد شارع فلسطين حاليا السلطان حسين سابقا حى الشرق (الحى الأفرنجى) وغربا شارع ممفيس ( محمود صدقى سابقا ) ومن الناحية الشمالية علي شارع الطائف ومن الجنوب علي شارع الجبرتي .
تاريخ الفنار
عند اتخاذ الخطوات العملية فى انشاء بورسعيد كميناء بحرى فى 25 ابريل 1859 فى عهد سعيد باشا والى مصر آنذاك .
اجتمع مسيو فرديناند ديليسبس بكبار مهندسى المشروع وأتخذ عدة قرارات من بينها انشاء فنار لارشاد السفن لموقع الميناء الجديد ليهتدى بنوره السفن القادمة الى الميناء قبل افتتاحه .
لذلك كلف ديليسبس مجموعة من العمال الأوربيين بإنشاء فنار بقرب الحد الجنوبى لحاجز الأمواج الغربى للقناة فكان عبارة عن دعامات من الخشب فوقها الفانوس و يبلغ أرتفاعه 20 مترا وأنتهى من انشاءه فى يوليو 1859 وكان يضىء لمسافة 25 ميلا وكانت تلك المسافة تفى بالغرض أول الأمر وأستمر هذا الفنار يفى بالغرض حتى يونية 1869 .
ولما أوشكت أعمال الحفر من الأنتهاء وتهيأت القناة لسير المراكب فيها كان هناك ضرورة لانارة ساحل البحر المتوسط فيما بين الأسكندرية وبورسعيد بفنارات لارشاد السفن التى تتردد على القناة بنورها فعقد لذلك مجلس من العلماء الفرنسيين والمهندسين البحارة وتم اختيار 4 نقاط لاقامة أربعة فنارات على ساحل رشيد والبرلس وعزبة البرج عند مصب نهر النيل بدمياط وبورسعيد .
أنشيء هذا الفنار طبقا لما جاء بالوقائع المصرية في عهد الخديوي إسماعيل في يونيه 1869 م وكان عمله الفعلي في فبرايــر 1870م .
ويصف علي باشا مبارك هذا الحدث فيقول ولما قرب انتهاء أشغال القناة وتهيئت لسير المراكب فيها أمعن النظر في ضرورة تنوير ساحل البحر المتوسط فيما بين الإسكندرية وبورت سعيد بإنشاء فنارات في نقاط معينة من الساحل لتهتدي بنورها السفن التي تتردد علي القناة فعقد لذلك مجلس من علماء فرنسا وغيرهم وحصل اختيار النقط بمعرفة المهندسين من البحارة وغيرهم, وصدر أمر الخديوي اسماعيل الى الكومبانية بعمل تلك الفنارات تحت اشراف الحكومة المصرية التى أعلنت عن مزاد بين المقاولين عام 1869 م .
فرسا فنار رشيد والبرلس وعزبة البرج على كومبانية فرنسا وقامت بتشييد تلك الفنارات من الحديد ورسا فنار بورسعيد على كومبانية أخرى شيدته من الصخور الصناعية ( الخرسانة المسلحة ) ولأجل التمييز بينهما وعدم التباس أحدهما بالأخر لرائيها جعل لكل واحدا منهما وضع يخصه ففنار رشيد متحرك وأنواره متنوعة الى أبيض و أحمر تتغير الحمرة الى البياض وعكسه كل عشر ثوان والبرلس ثابت بنور واحد اما دمياط عزبة البرج متحرك ونوره أبيض غير ثابت يظهر ويختفى بعد دقيقة وفنار بورسعيد مضطرب مرتعش كهربائى له بعد كل ثلاث ثوان غمضة وانفتاح .
أشرف على بنائه المهندس الفرنسي الشهير فرنسوا كونييه على طراز “فنار الحيتان” بفرنسا .
الوصف المعمارى للفنار
شيد الفنار علي قاعدة بالقرب من نهاية حاجز الأمواج الغربي للقناه محاطا بالأحجار الضخمة لصـد الأمواج من جميع الجهات عند الافتتاح عند الأفتتاح قبل تراجع مياة البحر المتوسط تاركة وراءها أراضى سميت بعد ذلك بطرح البحر وما زال الفنار يحتفظ بتخطيطه الأصلي علي الرغم من الإضافات التي استحدثت فيه حيث يتكون من برج مثمن المسقط من الخارج في الوسط شيد من الخرسانة المسلحة يرتفع لمسافة (56م) بما في ذلك الفانوس الزجاجي ومدمج في بدن البرج جناحين شمالي وجنوبي كل منهما من طابقين من الحــجر تحتوي علي غـرف ومكاتب كانت تستخدم سكن للملاحظين والإداريين
والجناح الشمالي متصل ببدن برج الفنار عن طريق باب أو ممـر في الطابق الأرضي في الناحية الجنوبية ويمثل برج الفنار وجناحيه الشمالي والجنوب مستطيل منتظم الأبعاد الشرقية
يشغل مساحة 30 طول×6م عرض 180م2
بخلاف المساحة المضافة للجناح الشمالي من ناحية الغرب والتي تبلغ 80 ,16 ×10, 4م عرض. ويتميز التخطيط الأصلي للفنار وملحقاته بالتناظر والتماثل من حيث المساحة وتوزيع الأبواب والنوافذ -خاصـة جناحيه الشمالي والجنوبي- “استراحة ومكاتب الملاحظين
يطل برج الفنار وملحقاته بواجهته الرئيسية ناحية الشرق المطلة علي ميناء بورسعيد علي شارع فلسطين “السلطان حسين سابقا”. حيث تحتفظ هذه الواجهة بعناصرها الأصلية من عصر البناء فهي تمتد بطول (30م) من أقصي الشمال الي أقصي جنوب المبني ويبلغ ارتفاعها (8م ) حتي نهاية الطابق الأول للجناحين الشمالي والجنوبي
ويمكن تقسيم الواجهة إلى ثلاثة أقسام رئيسية
أولا : القسم الأوسط ( البرج والفانوس ) يشغله برج الفنار حيث يطل بقاعدته من أسفل علي هذه الواجهة بثلاثة أوجه من أضلع مثمن برج الفنار حتي نهاية غرفة العدسة والآت التنوير الفانوس حيث ترتد قاعدته من الخارج الي الداخل بواسطة ثلاثة ارتدادات حتي تصل إلى مدخل الفنار والذي يتوسـط بدوره الوجه الأوسط من أوجه أضلع المثمن الثلاثة هو مدخل غائر نظم في كتلة تبرز عن سمـت الواجهة وتصل إليه عن طريق سلم من أربع درجات تؤدي الي صدفة بسيطة نصل الي فتحة باب الفنار وهو باب مستطيل يؤدي إلى ممر خلف الباب الخشبي تؤدي إلى ردهة المدخل. ويغلق علي فتحة باب الفنار باب خشبي ذو مصراعين متماثلين يبلغ ارتفاعه من بداية عقد الباب نصل إلى إطارين بارزين من الحجر يستخدمان كحلية زخرفيه ويحددان نهاية الطـابق الأول لبرج الفنار من الخارج ثم ينطلق في الفضاء باقي مثمن برج الفنار بانحدار طفيف الي الداخل بانسـياب ورشاقة حتي نصل الي إفريز حجري بارز يزخرف ويحيط ببرج الفنار من الخارج ويمثل الإفريز قاعدة غرفة “مراقبة تشغيل العدسة والانوار وعلي ارتفاع ثمانية أمتار من هذا الإفريز نصل الي الشرفة الحجرية التي تبرز إلى الخارج عن جدار البرج وهي محمولة علي إطارين بارزين كما يحيط بالشرفة درابزين من قوائم حديدية ويعلو الشرفة الطابق الأخير غرفة العدسة والمصابيح وهي ذات بدن أسطواني يبلغ ارتفاعه حوالي خمسة أمتار مقسم إلى جزئيين القسم ناحية الشمال صنع من الزجاج الشفاف ليتمكن الضوء من النفاذ لإرشاد السفن لموقع الميناء أما القسم الثاني الجنوبي فهو من الحديد ويلي هذا البدن الأسطواني خوذة حديدية وقد شكلت علي هيئة بصلية قطاعها عقد مدبب يعلوها رقبة أسطوانية يتكئ عليها القبة الثانية وهي علي هيئة قمعية يخـرج من مركزها سفود حديدي يحمل العلامات الملاحية في نهاية برج الفنار .
ثانيا :القسم الشمالى : يشغله الجناح الشمالي وكان يستخدم مع الجناح الجنوبي كاستراحة ومكاتب للعاملين وملاحظين الفنار وهو عبارة عن مساحة مستطيلة مكونة من طابقين وقد أدمج في المبـني إضافة في الناحية الغربية أما الطابق الأول فنصل إليه عن طريق سلم داخلي من الخشب وهو سلم ببئر مفتوحة مكون من قلبتين وصـدفه بسطة وهو من الخشب تبلغ عدد درجاته 21 درجة ويشمل الطابق الأول علي أربعة غرف وطرقة وحمام .
ثالثا :القسم الجنوبى : يشغله الجناح الجنوبي وهو عبارة عن مساحة مستطيلة مكونة من طابقين وهو علي مساحته الأصلية وهو متشابه تماما مع الجناح الشمالي إلا من بعــض التعديلات الحديثة في أبواب وشبابيك الطابق الأرضي والطابق الأول .
الوصف الانشائى للفنار
يعتبر هذا الفنار أول منارة بنيت بالخرسانة المسلحة في العالم وقد اشرف على بنائه المهندس الفرنسي الشهير فرنسوا كونييه وما يميزه ليس فقط أسبقيته في مادة البناء ولكن أيضا استمراره وثباته طوال هذا الوقت حيث تعتبر هذه هي المرة الأولي التي يستخدم فيها هذا النوع من الأعمال في البناء إذ قام البناءون يوما بعد يوم برص طبقات يصل سمكها من 20 إلى 25 سم ثم راكموها بدقها بعضها على بعض ولضمان تماسك المكونات ككل كان يتم تدعيم الخليط داخليا بدعامات بناء حديديه مسطحة تُرص اما بتوجيهها نحو مركز مشترك موحد أو بزوايا عمودية قائمة وكان هذا بمثابة ابتكار وتجديد إذ تم استخدام الخرسانة منذ ذلك الحين كمادة بناء مستقلة وليس فقط كمادة للحشو ,مع تدعيمها فضلا عن ذلك بدعامات معدنية فلقد كان ذلك ببساطة عبارة عن اختراع الخرسانة المسلحة استخدم الحجر في بناء ملحقات الفنار الجناحين الشمالي والجنوبي بسمك 50 سم وبنيت الإضافة في الناحيــة الغربية من الجناح الشمالي بالطوب الأحمر وبني برج الفنار بالخرسانة المسلحة ويوجد سلم حلزوني من حديد الزهر للصعود لفانوس الفنار قمة البرج بواسطة 290 درجة متكيف مع الحـيز الضيق –قطر البرج الداخلي 4.40 سم والذي لا يسمح باستخدام السلم ذي القلبات الممتدة ,وكسيت جدران الفنار الداخلية بطبقة من الدهان باللون الأبيض ودهنت جدران الملحقات الداخلية والخارجيـــة باللون الأصفر الغامق كما كسيت أضلع المثمن الخارجية من ناحية الشمال باللون الأبيض والأسود بشـكل تبادلي لأغراض الإرشاد النهاري ويستطيع قائدوا السفن من رؤية العلامات النهارية على بعد 8 أميال يذكر ان الفنار كان يتميز بوجود كرة أعلى البرج كانت تستعمل لتعيين الوقت من خلال احداث صوت دوي ناتج عن سقوطها بفعل هواء الاستيم يُسمع يوميا في تمام الساعة السادسة صباحا والساعة الثانية عشر ظهرا والساعة السادسة مساءا
كما تم تزويد الفنار بالأجهزة الكهربائية عام 1955 بعد أن كان يعمل بغاز الاستصباح .
خاتمة
توقف فنار بورسعيد عن ارشاد السفن عام 1967 مع تعطيل الملاحة بقناة السويس ثم أعيد تشغيله مع استئناف الملاحة بقناة السويس عام 1975 ثم توقف عن العمل نهائيا وحل محله فنار بورسعيد الجديد .
الفنار كان يتبع الهيئة العامة لسلامة الملاحة البحرية التابعة لوزارة النقل حتى صدور القرار رقم 392 لسنة 2012 من وزارة الأثار بتسجيل فنار بورسعيد القديم وملحقاته ضمن عداد الأثار الاسلامية والقبطية .
ولا زال مسلسل التعدى على الأثار مستمرا ولم يسلم فنار بورسعيد هو الأخر من تعديات أصحاب المال والنفوذ حيث شارف الفنار على الأختفاء عن الأنظار بفعل الابراج السكنية العالية والتى فاقت أرتفاعه وحجبته عن الأنظار مخالفة لكل القرارات التى صدرت بشأن ذلك .
وفنار بورسعيد بحاجة الى نفض غبار الإهمال خصوصا في ظل اهتمام الدولة المصرية بتطوير المناطق الأثرية وحسن استغلالها للترويج السياحي بما يليق بمكانة مصر التاريخية .
وقد اختارت وزارة الثقافة المصرية محافظة بورسعيد لتكون عاصمة الثقافة المصرية لعام 2021 .
وهناك مطلب شعبي بضرورة المحافظة على القيمة التاريخية لفنار بورسعيد القديم وتحويله الى متحف بحرى يحوى بداخله كل ما يتعلق بقناة السويس ليبقى شاهدا على تاريخ أهم مجرى ملاحي في العالم .
إقرأ أيضاً
عامود السواري ومقابر الكتاكومب..معالم الاسكندرية المنسية
الكاتب
-
هاني عبد العزيز
باحث فى التاريخ والتراث مؤسس صفحة سيرة المحروسة على فيس بوك