همتك نعدل الكفة
364   مشاهدة  

فيلم “The Insider”.. عن “إدمان التبغ” وأكبر عملية تضليل للرأي العام في تاريخ أمريكا

إدمان التبغ
  • صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.

    كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال



في منتصف التسعينيات شهدت الولايات المتحدة الأمريكية فضيحة إدمان التبغ التي هزت الرأي العام، حين عرض برنامج 60 دقيقة مقابلة مختصرة مع ضيف مجهول باعتباره عالم مرموق عمل سابقًا في واحدة من أكبر شركات التبغ في البلاد. المقابلة التي عرضت بشكل كامل فيما بعد كشفت أسرار خطيرة حول امبراطورية صناعة التبغ في العالم، أدرك الرأي العام من خلالها تعرضه لأكبر عملية تضليل واحتيال في التاريخ؛ أدت إلى مقتل الملايين على مدى عقود بالتسمم البطئ. لم تقف الفضيحة عند حدود الصحة العامة فحسب، بل امتدت لتكشف مستنقع من التضليل الإعلامي والتوجيه المتعمد للمشاهدين يدحض من الأساس خدعة “الإعلام النزيه”.

إدمان التبغ
بوستر فيلم The Insider

أواخر عام 1995م كان المخرج الأمريكي مايكل مان جالسًا مع زوجته في المنزل، يتابعان الحلقة الجديدة من البرنامج الأكثر شعبية في أمريكا وربما العالم “60 دقيقة”، وكحال ملايين المواطنين تفاجأ الزوجان بالحقائق التي تبث لأول مرة إلى الرأي العام حول إدمان التبغ الذي تخفيه شركات سجائر عالمية مثل “فيليب موريس”. في هذا اليوم تحديدًا قرر مان تأجيل كل مشروعاته الفنية؛ ليشارك صديقه إريك روث في كتابة سيناريو الفيلم الذي ترشح لسبع جوائز أوسكار The Insider. كانت فضيحة شركات التبغ التي هزت العالم بأسره هي القصة التي أصر مان على توثيقها في فيلمه الجديد، والذي لن يعجب الكثير من الشخصيات النافذة في اقتصاد الولايات المتحدة حين صدر في العام 1999م.

قصة رجل عرف أكثر من اللازم.. وصحفي أصر على المعرفة أكثر من اللازم

إدمان التبغ
مشهد من فيلم “The Insider” آل باتشينو وراسل كرو

من خلال الفيلم يدخل المشاهد إلى كواليس الخدعة التي كشفها رجلان دخلا حربًا غير متكافئة ضد كيانات ذات نفوذ سياسي ضخم وتقدر بمليارات الدولارات، “راسل كرو” في دور “د. جيفري إس ويجاند” رئيس قسم الأبحاث ونائب المدير التنفيذي لواحدة من أكبر 7 شركات تبغ في الولايات “براون آند ويليامسون”، و”آل باتشينو” في دور “لويل بيرجمان” الصحفي والمعد في برنامج 60 دقيقة. 

إدمان التبغ
آل باتشينو وراسل كرو مع الأبطال الحقيقيين د. جيفري ويجاند والصحفي لويل بريجمان

تبدأ الأحداث بحوارات حادة داخل كواليس صناعة 60 دقيقة، تؤصل للمشاهد مستوى نزاهة البرنامج ومدى مصداقيته في الشارع الأمريكي، ثم ندخل في القصة الرئيسية من خلال صندوق مجهول يصل للصحفي والمعد المعروف بالتزامه معايير صارمة للعمل الصحفي لويل بريجمان. محتويات الصندوق كانت عبارة عن آلاف الصفحات التي تتحدث عن معايير الأمن والسلامة لمنتجات شركة التبغ المعروفة فيليب موريس. هنا تستيقظ الحاسة السادسة للصحفي الذي يبدأ بالتقصي حول الوثائق التي وصلت له بواسطة شخص يبدو واضحًا أنه يخشى التورط، ليصل إلى د. جيفري ويجاند الذي تابعت مشاهد الفيلم تعرضه للإقالة التعسفية من منصبه في شركة التبغ براون آند ويليامسون تزامنًا مع حادثة الصندوق.

تتصاعد الأحداث بعد لقاء بريجمان بويجاند الذي رفض بشدة التحدث عن عمله سابق؛ بسبب خضوعه لاتفاقية سرية مع الشركة يعرضه فسخها لمساءلة قانونية وحرمان من كل ميزات التقاعد التي هو في أمس الحاجة إليها. في تلك الأثناء تفوح رائحة اللقاء إلى المدير التنفيذي لـ براون آند ويليامسون “توماس سانديفر” وبالطبع كبار صناعة التبغ في العالم، والذين يعلمون بكل تأكيد أن ويجاند يرفض سياسات الشركة المضرة بالصحة العامة وربما يفصح عن معلومات قد تقضي على إمبراطورية اقتصادية ضخمة بنيت على أرواح المدخنين.

أسطورة الإعلام النزيه تتحطم!

برنامج 60 دقيقة مايك والاس
الإعلامي مايك والاس من برنامج 60 دقيقة

كانت العقبة الكبرى التي تقف بين بريجمان وكشف الحقائق حول إدمان التبغ هي اتفاقية السرية، لكن الصحفي المخضرم استطاع التحايل عليها عن طريق استدعاء ويجاند كشاهد رئيسي في قضية ضخمة رفعها المدعي العام لولاية الميسيسيبي ضد مصانع التبغ للمطالبة بتعويضات عن مصاريف الرعاية الصحية لملايين المدخنين المتضررين من منتجاتهم. وعلى الرغم من نجاح الحيلة في تخطي تلك العقبة، إلا أن ويجاند واجه دعوى قضائية في الولاية التي أقام ووقع بها الاتفاقية كنتاكي، انتهت بأمر محكمة يمنع فسخ الاتفاقية. الأمر لم يمنعه من الإدلاء بشهادته أمام قضاء الميسيسيبي، لكن عرضه لمساءلة قانونية حيث يقيم في ولاية كنتاكي قد تنتهي به إلى السجن.

رسم مايكل مان سياقًا دراميًا أكثر من رائع يعيش المشاهد من خلاله الصراع النفسي للبطل بين رغبة غريزية في الحفاظ على أسرته التي تخضع لضغوطات وتهديدات بالقتل، ورغبة أخرى أخلاقية تدفعه لوضع حياته على المحك مقابل التكفير عن ذنب الاشتراك في تلك الصناعة القاتلة وفضحها للعامة. وعلى التوازي نتابع قصة إنسانية ومهنية وثيقة الارتباط بفضيحة إدمان التبغ يعيشها بريجمان مع شبكة CBS المنتجة لبرنامج 60 دقيقة، حين يكتشف رضوخ الشركة الأم لضغوطات خارجية مدفوعة بالمال المُسَيس لمنع مقابلة ويجاند من الظهور إلى الرأي العام. وعلى الرغم من محاولاته المستميتة لنشر القصة كما هي تصر الشبكة على حذفها بموافقة منتج البرنامج ومقدمه الشهير “مايك والاس”، ويصبح أمام حرب إعلامية من نوع آخر حين يجد وسائل الإعلام تفتح النار على ويجاند وتنبش في تاريخه؛ لتضرب مصداقيته أمام الرأي العام تمهيدًا لتكذيب شهادته حول إدمان التبغ.

حقائق صادمة يكتشفها العالم لأول مرة عن “إدمان التبغ” ومادة “الكومارين”

مدراء أكبر 7 شركات التبغ
مدراء أكبر 7 شركات التبغ يدلون القسم قبل شهادتهم الكاذبة أمام الكونجرس 1994م

في تلك الفترة من التاريخ كان من المعروف أن التدخين ضار بالصحة بشكل ما، لكن لم يكن أحد يتصور أن التبغ يمثل خطورة إدمان تعادل المخدرات، وبالطبع لم يتصور الرأي العام كيف تسعى شركات السجائر إلى رفع معدلات الإدمان تلك، أو كيف تحايلت على قوانين الصحة العامة وكذبت أمام الكونجرس للتهرب من المسئولية القانونية عن مقتل ملايين المدخنين وإصابة أضعاف تلك الأعداد بأمراض مثل السرطان والتهاب الكبد وغيرها.

ملخص الشهادة التي أدت إلى أكبر حادثة تضليل في تاريخ أمريكا يدور حول “إدمان التبغ”، المعلومة أثبتتها أبحاث أجراها علماء يعملون لدى رواد صناعة التبغ على مستوى العالم، وطوال سنوات أنفقوا ملايين الدولارات لضمان بقائها محبوسة داخل أدراج مكاتبهم. حيث كشف ويجاند أن مدير شركته سانديفر كان يعلم فحوى الأبحاث التي أثبتت تأثير مادة النيكوتين التي هي أساس صناعة التبغ المعادل لتأثير المخدرات. ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد تأكد تعمده هو ومدراء 6 شركات كبرى أخرى كتمان الأمر بالشهادة الكاذبة التي أدلوا بها أمام الكونجرس في جلسة استجواب سابقة، حين وجه لهم سؤال واضح وصريح حول إن كان النيكوتين يسبب الإدمان وكانت إجاباتهم جميعًا تنص على عدم وجود أي معلومة لديهم تؤكد هذا الادعاء.

لم يكن مدراء الشركات يكتمون الأبحاث المؤكدة حول إدمان التبغ فقط، بل استغلوا هذا الإدمان في زيادة مبيعاتهم بمساعدة مادة “الأمونيا” المضافة إلى تبغ السجائر والتي تساعد الرئتين على امتصاص كميات أكبر، ومن ثم تحقق امتصاص أكبر للنيكوتين في المخ والجهاز العصبي وترفع نسبة إدمانه. أمَّا الفضيحة الأكثر خطورة كانت ما كشفه ويجاند عن استخدام مادة “الكومارين” السامة في صناعة التبغ، والتي أكدت الأبحاث أنها تسبب أضرارًا أكيدة للكبد خلال 3 أسابيع فقط من استخدامها، ناهيك عن أن كمية ضئيلة منها لا تتعدى 5 جرام تعتبر مميتة. وكان سبب رفض الاستغناء عن الكومارين المحظور في صناعة السجائر حينذاك هو تخوف المدراء من هبوط المبيعات؛ لأن مادة الكومارين لها نكهة ورائحة قوية محببة لدى المدخنين.

إقرأ أيضا
الاحتلال البريطاني

ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة

بعد الفضيحة التي دمرت أسطورة الإعلام النزيه وكشفت حقيقة التدخل السافر الذي اعتادت الكيانات الاقتصادية الضخمة ممارسته على وسائل الإعلام وحتى القضاء والشرطة الفيدرالية، لم يكن أمام شركات التبغ حل سوى القبول بتسوية هي الأضخم في تاريخ قضايا الصحة العامة. دفعت 7 شركات تبغ عالمية مبلغًا قدره 246 مليار دولار لـ50 ولاية أمريكية بالطبع على رأسها الميسيسيبي.

قد يبدو المبلغ التعويضي الضخم نهاية سعيدة لقضية إدمان التبغ التي صدمت الشارع الأمريكي حينها، لكن القصص لم تبدأ بعد؛ فقد أكد بطل القصة الصحفية بيرجمان أنها لم تكن المرة الأولى التي تحجب فيها معلومات تمس العامة بسبب ضغوطات خارجية، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة. ربما العزاء الوحيد الذي يمكن كتابته لنعي نزاهة الصحافة هو أن الوقت سيكون كفيلًا بكشف ما اتفق الجميع على كتمانه يومًا ما.

الكاتب

  • إدمان التبغ إسراء أبوبكر

    صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.

    كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان