همتك نعدل الكفة
800   مشاهدة  

في شم النسيم كانت لنا طقوس

شم النسيم


نستيقظ فجرًا، نُحضر إناءًا كبيرًا نرص به البيض الأبيض ونضعه فوق النار، وننتظره حتى ينضج بفارغ الصبر.

ها هو أبي يقف مبتسمًا مبتهجًا، يضع الألوان المخصصة لتلوين البيض في أطباق من الخزف، حتى لا تلتصق الألوان بالأطباق المخصصة للأكل لكي لا تشوه منظرها، تعانق عيناه سعادتنا وطفولتنا وشغفنا وانتظارنا.

اقرأ أيضًا 
“حد السعف” بلا سعف.. و”جمعة حزينة” على مصر.. كرياليسون

قضينا الليلة الماضية مع أمي وهي تعجن الدقيق بالماء وتضع فوقه قطع من الخميرة، ثم تغطي العجين وتتركه ليخمر، وها هي تأتي به بعد أن تضاعف حجمه، تقطعه قطعًا صغيرة ثم تبرمه بأصابعها المنهكة، يتلوى العجين بين يديها كالحيات الصغيرة، نجدها تضفره ثم تصنع بتلك الضفيرة حلقة دائرية، نصقف في سعادة، إنها كعكة شم النسيم.

في التلفيزيون الذي نُقلّب مؤشره بين القناة الأولى والثانية ونضبط الإريال الموضوع فوقه حتى تأتينا الصورة واضحة والصوت جليًا، نبحث عن ذلك الصوت الطرب لسعاد حسني التي تغني بغبطة: “الدنيا ربيع والجو بديع قفللي على كل المواضيع قفل قفل قفل قفل مافيناش كاني ومفيناش ماني كاني ماني ايه ده الدنيا ربيع”، وعلى أنغام تلك الأغنية المبهجة يضع أبي فوق المائدة الأطباق الخزفية، ثم يضع كل بيضة في لون مختلف وكأنه يلون عالمنا الصغير، أحمر، وأصفر، وأخضر، وأزرق، ثم يخلط الألوان لتنتج لونًا بنفسجيًا مرة وبرتقاليًا مرة أخرى، ثم يتركها لتجف، كم أحب اللون الأحمر في البيض الملون، وإن كان لوني المفضل هو الأزرق بجميع واختلاف درجاته.

تأتينا أمي بالألوان الخشبية، ومن بين بأصابعنا الصغيرة تتدحرج البيضة التي نحملها ونحن نرسم فراشات وبيوتًا ونكتب أسمائنا فوقها.

لا تنسى أمي وضع حبيبات الحلبة في مصفاة ورشها بالماء قبلها بعدة أيام حتى تُنبت شعيرات دقيقة بيضاء كنا نسميها “زلومة”، وتتذكر إعداد الترمس وتغيير مياهه باستمرار، كنا نختلس منه بضعة حبات لنتذوقه فنجده بمرارة حياة الناضجين التي لم نكن نتخيل يوما أن نعرفها أو تعرفنا، ولا ينسى أبي كذلك احضار البيض المصنوع من الشيكولاته والمغلف بسوليفان زاهية ألوانه، يضعه في وسط طبق البيض الملون كي يضفي عليه جمالاً أكثر وبهجة أكبر، ويتذكر أيضًا تلك الورود التي يجلبها في كل عام، يقف لينسقها في المزهرية ويضع لها بالماء بضعة رشات من السكر حتى تعيش مدة أطول.

يقف أبي ضاحكًا يلتقط لنا بضعة صور تذكارية أمام المائدة بالكاميرا الفوتوغرافية، التي غالبا ما تُحرق أفلامها حين يذهب بها لإستوديو كوداك كي يطبعها.

ثم نبدأ في التهام وجبتنا المفضلة من البيض والكعك الهش الذي صنعته أمي مسبقا، والذي لا يحق لنا تذوقه إلا في صباح شم النسيم.

وفي الظهيرة نجتمع على المائدة الممدودة، والمليئة بأطباق الفسيخ والرنجة والسردين والملوحة والبصل الأخضر، نلتهم بنهم ما قد تم تحضيره، وذلك بالطبع بعد تلك السرقات الصغيرة للقيمات من ذلك الطبق الكبير الممتلئ بتلك القطع المالحة.

نهضم جميع ما أكلناه بزجاجات المياه الغازية الصغيرة المستبدلة، كان لدينا صندوقًا من تلك الزجاجات الفارغة وضعته أمي تحت سريرها، نذهب لنستبدل بعض منها بأخرى ممتلئة من ذلك الدكان الصغير المجاور لنا.

مات أبي ولم تمت تلك العادات في بيتنا الذي تقلص عدد أفراده، وفي كل عام أشعر بروحه حولنا مبتهجة ونحن نلون البيض ونجتمع حول مائدة الفسيخ، بينما ظهرت عادات أخرى مختلفة من حولنا، ينادي أصحابها بعدم أكل الفسيخ في نفس يوم شم النسيم، وأكله- وإن لم يكن مستحبًا ومكروهًا – قبل ذلك اليوم أو بعده، وانتشار الآراء التي لا تحرّم فقط في ذلك اليوم تلوين البيض بل وبيعه أيضًا، فالويل لمن باعه، فإن ماله وكسبه حرام، وذياع الأصوات التي لا تنادي فقط بتأثيم أولئك المحتفلون بشم النسيم، بل وتكفير كل من خرج من بيته في هذا اليوم !

YouTube player

ولك أن تتخيل أنك تخرج من ملتك في شم النسيم عشان كيلو فسيخ ونص رنجة وفحل بصل وطبق ترمس وكام بيضة !!

إقرأ أيضا
بيض شم النسيم

هؤلاء الذين إن حدثتهم عن البهجة يحدثوك عن النار والعذاب، تحدثهم عن الاحتفالات فيخبروك بأنك ملعون في الدنيا والآخرة، أولئك الذين يحاربون أي صورة للاحتفال بالحياة، ويبحثون عن أي منفذ لاستئصال المناسبات السعيدة، ويربطون السرور بالتحريم طوال الوقت، ويشنعون ويعادون تعبير الإنسان بالامتنان للوجود، أولئك الذين يقلقهم الفرح وتفزعهم السعادة، المدمنون للكراهية والهوس ووأد الحياة، الشغوفون بالتجهم المتوارث والعُقد البالية، الذين يحملون الجراثيم الفكرية لمقت الجماليات، بأفكارهم المنسوجة من الريبة التي ترتجف في أية فعالية احتفالية، يتحججون بأنه لا ابتهاج إلا بعيدين في تقويم أيامهم، وكأنهم في محافلهم التي لم يتقنوا الفرح الصادق بها سيبهرون الدنيا بالكرنفالات !!

تلك اللحى التي شوهت الحياة في مُخيلاتنا، جعلتنا حشودًا نستهلك أعمارنا في كل قصص الموت، أفرزت جيلًا مرتابًا مُعنفًا سخيف العقل، لا يستطيع التفكر والتفكير، يَنقل ما يُلقّن كالدمى الغبية.

هذا الهراء لابد أن يتوقف..

هذا العبث لابد أن ينتهي..

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
11
أحزنني
7
أعجبني
10
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
5


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان