همتك نعدل الكفة
784   مشاهدة  

في وداعِ النَّبيلة “شيرين غيث”

شيرين غيث
  • - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد



كان يوم الإثنين الفائت، الموافق 8 يونيو، يومًا حزينًا للغاية.. معظم النَّاس كان بعضهم يعزِّي بعضًا؛ لأنَّ اليوم المشار إليه يوافق ذكرى انتقال النَّبيِّ محمدٍ (صلى الله عليه وسلَّم) إلى الرفيق الأعلى، وفي نفس اليوم توفِّيت المخرجة “شيرين غيث”؛ كأنَّ وفاتها تأبى أن تكون في يومٍ عابرٍ، بل في يومٍ خالدٍ كلَّما مرَّ في الزَّمان تجدَّدت فيه ذكراها مرتبطةً بالذِّكرى العبقريَّة الَّتِي لا ينساها البشر ولا التَّاريخ!

تخرجت السَّيِّدة “شيرين غيث” من المعهد العالي للسِّينما في عام 1996، وعملت فيه بعد ذلك مدرِّسًا مساعدًا بقسم الصَّوت، لها عددٌ من الأفلام التَّسجيليَّة والوثائقيَّة، أبرزها فيلم “همس النَّخيل” الذي كتبت له السيناريو وأخرجته، الفيلم يحكي عن قرويَّة تُدعَى نعمات تعمل في صناعة الأقفاص ولديها أربعة أولاد صغار، يقاسي اثنان منهما من الإعاقة الجسديَّة، تكافح المرأة من أجلهم كفاحًا جميلًا، والأهمُّ تحاول أن تجنِّبهم العمل بمهنتها الشَّاقَّة مستقبلًا.. الفيلم أنتجه قطاع النِّيل للقنوات المتخصِّصة في عام 2006، وحاز ثماني جوائز من مهرجانات محلِّيَّة ودوليَّة، ولها فيلم “عروستي خَلَج” كتبت له السيناريو أيضا مع الإخراج، أي عروستي من قماش.. “خَلَق”.. لكن الاسم باللَّهجة الصَّعيديَّة؛ فبطلة الفيلم هي الطِّفلة “ولاء” الَّتِي تنتمي إلى الأقصر في الجنوب المصريِّ، وتصنع العرائس من القطن والقماش لتبيعها للسُّياح.. وقد حصد الفيلم جائزتين كبريين، أولاهما الجائزة الفضيَّة من مهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون، والثَّانية جائزة أفضل فيلمٍ وثائقيٍّ قصيرٍ من المهرجان الدَّوليِّ للسِّينما العربيَّة والأوروبيَّة “آمال”.

شيرين غيث

كما عملت في الدِّراما المصريَّة الطَّويلة الذَّائعة كمخرجٍ مساعدٍ لمسلسلات “جحا المصري” للمخرج “مجدي أبو عميرة” و”هوانم جاردن سيتي– الجزء الثَّاني” للمخرج “أحمد صقر” و”الوتد” للمخرج “أحمد النَّحاس”. بالنسبة للفنِّ عمومًا، كانت متحمِّسة لصنع الفرائد، ومحصَّنةً بقوَّة شخصيَّتها، ومسلَّحةً بوعيها ونباهتها..

لأن الشُّكوك تحيط بالموتى في هذه الأيام بسبب كورونا؛ فقد نفت الدُّكتورة “غادة جُبارة”، مشكورةً، وهي نائب رئيس أكاديميَّة الفنون، نفت قطعيًّا أن تكون السَّيِّدة توفِّيت بالوباء المُسْتَجِدِّ، وهي الشَّائعة السَّخيفة الَّتِي انتشرت، وآلمت أسرة الفقيدة وأحبَّاءها، آلمتهم بشدَّةٍ لا لشيءٍ إلَّا لكونها تجافي الحقيقة. قالت الدُّكتورة “جُبارة”: إنَّ المخرجة شيرين غيث توفِّيت بسبب سرطان الكبد، وإنَّها كانت تعاني منه منذ فترةٍ كبيرةٍ، وجميع زملائها يعرفون حالتها ومعاناتها إلى الوفاة. هكذا تكلَّمت رفيعة المقام، بالنَّصِّ والحرف، ونقلت معظمُ المواقع والصُّحف قولَهَا الضَّروريَّ الأمينَ.

من يعرفون “شيرين غيث” جيِّدًا؛ يعرفون أحزانها الخاصَّة الكبيرة منذ تعقَّدت أحداث ثورة يناير، ووقعت المآزق الميدانيَّة، وساءت الأحوال، إلى أن تبدَّدت الثَّورة كليًّا لاحقًا بجملة مطالبها الرَّاقية.. شعرت السَّيِّدة الَّتِي تزوَّجت مرَّةً واحدةً في حياتها القصيرة، وانفصلت بدون إنجاب، بإحباطٍ هائلٍ في تلك المرحلة المُمْتدَّة المُمِلَّة؛ حتَّى توهَّمت، كمثل مرهفين غيرها، أنَّها بحاجةٍ لفضفضةٍ مع استشاريٍّ نفسيٍّ، تحكي له أوجاعَ رُوحِهَا، وأعلنت توهُّمَهَا (الحسَّاسَ) بتفاؤلٍ لا تشاؤمٍ ولم تَكْتُمْهُ، وبدا الموضوع مُفَاجِئًا وعبثيًّا للأمانة، وبصرف النَّظر عمَّا جرى بذلك الخصوص حينذاك، هي كانت من السَّيِّدات المستنيراتِ اللَّواتي يُؤْمِنَّ بالطِّبِّ والعلم فوقَ الوصفِ؛ لدرجة أنَّها كانت تنصح أصدقاءها المقرَّبين بألَّا يترَّددوا في زيارة “العيادة النَّفسيَّة” إذا تعرَّضوا لضُغُوطٍ ثقيلةٍ فاضْطَربُوا أو اكْتَأَبُوا؛ لأنَّ الذَّهاب إلى شخصٍ خبيرٍ، يمكن أن يكون بِيَدِهِ الحلُّ والعلاج، فعلٌ إيجابيٌّ محمودٌ لا يجب الخجلُ منه ولا تهيُّبُ خَوْضِهِ.

مع الوقت تخطَّت تلك المرحلةَ القاسيةَ وتحسَّنت فعليًّا، لكن قلبها لم يخلُ قطُّ من التَّعب؛ إذ كانت من الَّذِين يكرهون الكذب والادِّعاء كراهيةً عمياء، غير أنَّها لم تكنْ تجدُ سواهما في ساحات الفنِّ والثَّقافة والسِّياسة للأسف، بل كان يعذِّبها طغيانُ القيمتين السَّلبيَّتيْنِ حتَّى وسط النَّاس العاديِّين الَّذِين ليسوا بمتطلِّعين إلى العُلَا وليست لهم حساباتٌ من أيِّ نوعٍ، ولعلَّ مَنْ كانوا حريصين على متابعة صفحتها بالسُّوشيال ميديا انتبهوا، في أواخرها بالذَّات، لكثرة شكواها عمومًا ولطغيان معنى اللاجدوى على ما تكتبه وللشُّعور بكتمانها بَوْحًا شجيًّا جليل الشأن وراء فيضانها الهادر وللإحساس الصَّارخ بوحدتها.. الوحدة الَّتِي هي برهان صدقها العظيم في غابة الحياة، وقد كانت وحيدةً بالمعنى لا المبنى، وتحمل همَّ والدتها المُسِنَّة المريضة الَّتِي تعتمد عليها لعدم وثوق “شيرين” في أنَّ الباقي لها من العمر كثيرٌ.. (وقد صدَّقت الأيَّام حَدْسَهَا ووقع الرَّحيل المبكِّر الصَّادم بالفعل).

إقرأ أيضا
رسوم صلاح جاهين

على المستوى الإنسانيِّ، كانت السَّيِّدة بالغة النَّقاء والجُود، تتَّسم بالشُّموخ والتَّواضع، وتملك ابتسامةً رَحْبةً عَذْبةً، رحابتُهَا تملأ وَجْهَهَا وَوُجُوهَ المحيطين بها وعذوبتُهَا بحجم العالم، ومن عجيبٍ حقًّا أنَّها كانت قادرةً باستمرارٍ على أن تغمر الَّذِين أمامها بالأمل والبهجة على الرَّغم من كثافة الهزائم والمرائر بداخلها، وكانت شهامتها باذخةً؛ إن صادفت إنسانًا في ورطةٍ، فإنَّها تسعى جاهدة في تخليصه منها ولا تكفُّ عن السؤال عنه بعدها حتَّى تطمئنَّ عليه، ولو كان غريبًا عنها؛ لأنَّها كانت جذرًا راسخًا في أرض الخصال الطَّيِّبة، جذرًا نبيلًا بكلِّ معنى الكلمة.

الكاتب

  • شيرين غيث عبد الرحيم طايع

    - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان