همتك نعدل الكفة
237   مشاهدة  

في وداع الزعيم…يرويها زكوة 9

بنسيون


لم أتأقلم مع حياة الوحدة في الغرف التي كنت أستأجرها فوق أسطح عمارات القاهرة ، كنت لا أعرف مع أصوات صفير الهواء و تساقط المياه من الصنابير و الأقدام على السلالم إلا صوت السكون ، وحدتي في حياتي القديمة بالزقازيق تختلف ، فهي رغم أي شيئ وحدة طمأنها الضجيج الدائم الذي صنعه أقاربي و جيراننا من شجار ومشاحنات و لهو  و ضحك ، لذا إنتقلت إلى بنسيون في شارع سليمان باشا بوسط المدينة .

شارع سليمان باشا طلعت حرب الأن الذي مكان الـ بنسيون
شارع سليمان باشا طلعت حرب الأن الذي مكان الـ بنسيون

أردت فقط من وجودي في البنسيون أن أجد من ألقي عليه تحية الصباح أو من يبتسم لتحيتي عندما أمر أمامه في المساء .

 

دخلت من الباب إلى صالة إستقبال البنسيون بعد يوم قضيت نهاره في الدراسة و ليلهِ بالمسرح ، سرت في طريقي إلى غرفتي من أمام حسن موظف الإستقبال .

 

– مساء الخير ( قلت )

 

لم يرد ، إلتفت خلفي فوجدت عينيه مثبتتان تجاه الراديو، تعجبت و إستأنفت طريقي في نفس اللحظة التي إستأنف فيها قارئ القرآن تلاوته عبر الراديو ، نظرت في ساعة يدي ، تأكدت أن التوقيت غير معتاد فيه بث آيات من القرآن .

– صدق الله العظيم ( نطقها المُقرئ )

– أيها الأخوة المواطنون يلقي عليكم الآن السيد أنور السادات نائب رئيس الجمهورية هذا البيان ( قالها المذيع )

خفق قلبي ، إقتربت من مكان إنحناءة حسن أعلى الراديو ، أتى صوت أنور السادات يُغلفه الحزن ، إحترت في إسم الشخصية الهامة التي سينعيها و تساءلت هل هو قائد دولة عربية شقيقة أم لأخري صديقة من دول عدم الإنحياز لكنه ألقى بيان وفاة الرئيس جمال عبدالناصر ، هرولت  إلى غرفتي بالتزامن مع خروج سكان البنسيون من غرفهم في إتجاه الراديو ، قبل أن أغلق الباب خلفي كانت أصوات بكاء و نحيب الرجال و النساء تصدح  بموسيقى جنائزية تشبه التي كنت أسمعها في صغري قبل مرور جنازة من أمام بيت جدتي .

 

إقرأ أيضًا…هل سرق وائل الإبراشي مقتنيات أحمد زكي؟..القصة كاملة

إقرأ أيضا
سامي شرف

 

رقدت في منتصف السرير و أنا إنظر إلى السقف تنهمر دموعي في صمت فرأيتني عندما كنت صبياً في الحادية عشر و أنا أقف بين زملائي في صف منتظم نرتدي زي الكشافة نحمل أعلام مصر على رصيف محطة سكة حديد الزقازيق و حولنا جماهير ترفع لافتات ترحيب بالزعيم جمال عبدالناصر ننتظر جميعاً مرور القطار الذي يقله من القاهرة إلى المنصورة ، كنا نتضرر من أشعة الشمس الحارقة لكن لسعتها و طول وقوفنا لم يفتران لهفتنا لرؤية الزعيم ، تخوفت أن تندفع الجموع لحظة عبور القطار فتحجب الرايات و الأكتاف و الرؤوس عني رؤيته ، تلفت باحثاً عن طوق نجاة فرأيت عموداً تدور حوله حلقات معدنية صدئة ، يفصل بين كل واحدة و الأخرى مقدار قدم ، خرجت من الصف ، تسلقت إلى أعلى ذلك العمود و إحتضنته ، نظرت إلى أسفل فرأيت لوحة بديعة الألوان تكونها الحشود و القضبان و تفاصيل المحطة وفي خلفيتها خضار الغيطان البعيدة ، لمحت القطار يقترب مهدئاً من سرعته ، إرتفع الهتاف ممزوجاً بصوت دقات قلبي ، تخطت عربة سائق القطار مكان وقوفي ثم رأيت يد الزعيم تلوح في الهواء فقفزت لأسفل لحظة طلته من شباك القطار ، أصبحت نظراته مركزة إلى عيني و قبل أن أسقط فوق الرجال المتزاحمين كانت أطراف أصابعي قد لامست كفه ، شاء القدر أن أسقط خلف الجموع لا أمامهم و إلا وقعت في تلك المسافة بين القطار و بين رصيف المحطة و ما عشت لأتذكر تلك الواقعة وقتها عندما كان قلبي تُمسك به يد الحزن و تعصره .

 

فتحت عيني مذعوراً على صوت دقات على الباب ، كنت أنام معتدلاً بملابس النوم ، إكتشفت أنني لم أغادر الغرفة منذ سمعت الخبر ، عادت الدقات و إنتبهت لأصوات جماهير تأتي من الشارع بالأسفل ، قمت و فتحت الباب ، رأيت فؤاد معوض حزيناً بعينين ذابلتين يدعوني لمصاحبته إلى الجنازة ،  إستدرت و عدت إلى سريري ، رقدت على جانبي الأيسر ناظراً إلى الضوء الذي يأتي من شباك الغرفة ، ساد الصمت ثم سمعت صوت أقدامه تبتعد و باب الغرفة يغلق من الخارج ، عندما مات أبي لم أعرف ذلك الخبر لأنني كنت رضيعاً لا أعي شيئاً مما يحدث حولي و حين أخبروني في وقت لاحق بموته شعرت بشيئ غامض لم أفسره لأنه لم يكن موجوداً و ملومساً ثم إختفى ، لكنني لحظتها حينما تيقنت أن  ناصر ذهب و لن يعود ، شعرت بكل شيئ ، الخضة عند سماع نبأ فقد الأب و معنى غيابه الدائم و بللت دموعي غطاء الوسادة .

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان