في وداع الزعيم…يرويها زكوة 9
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد
لم أتأقلم مع حياة الوحدة في الغرف التي كنت أستأجرها فوق أسطح عمارات القاهرة ، كنت لا أعرف مع أصوات صفير الهواء و تساقط المياه من الصنابير و الأقدام على السلالم إلا صوت السكون ، وحدتي في حياتي القديمة بالزقازيق تختلف ، فهي رغم أي شيئ وحدة طمأنها الضجيج الدائم الذي صنعه أقاربي و جيراننا من شجار ومشاحنات و لهو و ضحك ، لذا إنتقلت إلى بنسيون في شارع سليمان باشا بوسط المدينة .
أردت فقط من وجودي في البنسيون أن أجد من ألقي عليه تحية الصباح أو من يبتسم لتحيتي عندما أمر أمامه في المساء .
دخلت من الباب إلى صالة إستقبال البنسيون بعد يوم قضيت نهاره في الدراسة و ليلهِ بالمسرح ، سرت في طريقي إلى غرفتي من أمام حسن موظف الإستقبال .
– مساء الخير ( قلت )
لم يرد ، إلتفت خلفي فوجدت عينيه مثبتتان تجاه الراديو، تعجبت و إستأنفت طريقي في نفس اللحظة التي إستأنف فيها قارئ القرآن تلاوته عبر الراديو ، نظرت في ساعة يدي ، تأكدت أن التوقيت غير معتاد فيه بث آيات من القرآن .
– صدق الله العظيم ( نطقها المُقرئ )
– أيها الأخوة المواطنون يلقي عليكم الآن السيد أنور السادات نائب رئيس الجمهورية هذا البيان ( قالها المذيع )
خفق قلبي ، إقتربت من مكان إنحناءة حسن أعلى الراديو ، أتى صوت أنور السادات يُغلفه الحزن ، إحترت في إسم الشخصية الهامة التي سينعيها و تساءلت هل هو قائد دولة عربية شقيقة أم لأخري صديقة من دول عدم الإنحياز لكنه ألقى بيان وفاة الرئيس جمال عبدالناصر ، هرولت إلى غرفتي بالتزامن مع خروج سكان البنسيون من غرفهم في إتجاه الراديو ، قبل أن أغلق الباب خلفي كانت أصوات بكاء و نحيب الرجال و النساء تصدح بموسيقى جنائزية تشبه التي كنت أسمعها في صغري قبل مرور جنازة من أمام بيت جدتي .
إقرأ أيضًا…هل سرق وائل الإبراشي مقتنيات أحمد زكي؟..القصة كاملة
رقدت في منتصف السرير و أنا إنظر إلى السقف تنهمر دموعي في صمت فرأيتني عندما كنت صبياً في الحادية عشر و أنا أقف بين زملائي في صف منتظم نرتدي زي الكشافة نحمل أعلام مصر على رصيف محطة سكة حديد الزقازيق و حولنا جماهير ترفع لافتات ترحيب بالزعيم جمال عبدالناصر ننتظر جميعاً مرور القطار الذي يقله من القاهرة إلى المنصورة ، كنا نتضرر من أشعة الشمس الحارقة لكن لسعتها و طول وقوفنا لم يفتران لهفتنا لرؤية الزعيم ، تخوفت أن تندفع الجموع لحظة عبور القطار فتحجب الرايات و الأكتاف و الرؤوس عني رؤيته ، تلفت باحثاً عن طوق نجاة فرأيت عموداً تدور حوله حلقات معدنية صدئة ، يفصل بين كل واحدة و الأخرى مقدار قدم ، خرجت من الصف ، تسلقت إلى أعلى ذلك العمود و إحتضنته ، نظرت إلى أسفل فرأيت لوحة بديعة الألوان تكونها الحشود و القضبان و تفاصيل المحطة وفي خلفيتها خضار الغيطان البعيدة ، لمحت القطار يقترب مهدئاً من سرعته ، إرتفع الهتاف ممزوجاً بصوت دقات قلبي ، تخطت عربة سائق القطار مكان وقوفي ثم رأيت يد الزعيم تلوح في الهواء فقفزت لأسفل لحظة طلته من شباك القطار ، أصبحت نظراته مركزة إلى عيني و قبل أن أسقط فوق الرجال المتزاحمين كانت أطراف أصابعي قد لامست كفه ، شاء القدر أن أسقط خلف الجموع لا أمامهم و إلا وقعت في تلك المسافة بين القطار و بين رصيف المحطة و ما عشت لأتذكر تلك الواقعة وقتها عندما كان قلبي تُمسك به يد الحزن و تعصره .
فتحت عيني مذعوراً على صوت دقات على الباب ، كنت أنام معتدلاً بملابس النوم ، إكتشفت أنني لم أغادر الغرفة منذ سمعت الخبر ، عادت الدقات و إنتبهت لأصوات جماهير تأتي من الشارع بالأسفل ، قمت و فتحت الباب ، رأيت فؤاد معوض حزيناً بعينين ذابلتين يدعوني لمصاحبته إلى الجنازة ، إستدرت و عدت إلى سريري ، رقدت على جانبي الأيسر ناظراً إلى الضوء الذي يأتي من شباك الغرفة ، ساد الصمت ثم سمعت صوت أقدامه تبتعد و باب الغرفة يغلق من الخارج ، عندما مات أبي لم أعرف ذلك الخبر لأنني كنت رضيعاً لا أعي شيئاً مما يحدث حولي و حين أخبروني في وقت لاحق بموته شعرت بشيئ غامض لم أفسره لأنه لم يكن موجوداً و ملومساً ثم إختفى ، لكنني لحظتها حينما تيقنت أن ناصر ذهب و لن يعود ، شعرت بكل شيئ ، الخضة عند سماع نبأ فقد الأب و معنى غيابه الدائم و بللت دموعي غطاء الوسادة .
الكاتب
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد