همتك نعدل الكفة
72   مشاهدة  

قصة إضراب الحانوتية في مصر “سيارات نقل الموتى كانت السبب”

إضراب الحانوتية
  • باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



قبل ثلاثينيات القرن الماضي لم تكن مصر قد عرفت نظام سيارات تكريم الإنسان، وبعد 20 سنة من ظهور فكرة سيارات نقل الموتى سنة 1909م[1]، قررت مصر تطبيقها سنة 1930م وأثار ذلك لغطًا كبيرًا جعل الحانوتية يضربون عن عملهم.[2]

أزمة نقل الأموات ومحاولة إضراب الحانوتية في مصر

مقابر في القاهرة تأسست سنة 1870م بالقرب من صحراء المماليك
مقابر في القاهرة تأسست سنة 1870م بالقرب من صحراء المماليك

في الربع الأول من القرن العشرين كانت عملية نقل الأموات تتم في مهمتين بالتوازي هما التجهيز والخَرْجَة، وكلا المهمتين يتولاهما الحانوتي الذي يستدعيه أهل الميت، فمهمة التجهيز تُنَفَّذ عندما يأتي الحانوتي بـ مُغَسِّل يتولى تغسيل الميت وتكفينه.

أمام مهمة الخَرْجَة فكان يقوم بها صبية الحانوتي وتبدأ بتأجيرهم لنعش من أحد المساجد أو نعش في محل الحانوتي، ويوضع الميت على لحاف في النعش، ويُسَجَّى بشال كشميري ثم يحملوا الميت على أعناقهم ويرددون ألفاظًا إسلامية توديعية مثل التهليل أو الديمومة الإلهية (الله يا دايم ولا دايم غير الله) ومن خلفه المشيعيين ويسير صبية الحانوتي على الأقدام لحين دفنه.

لم يكن عمل الحانوتية في الثلاثينيات فعلاً تطوعيًا وإن كان قد بدأ بذلك، وإنما كان يخضع عملهم تحت رقابة قانونية من لجنة الجبانات (التي سنتطرق لتفاصيلها لاحقًا)، وكانت رئاسة لجنة الجبانات من مسؤولية محافظ القاهرة، وحينها أصدر المحافظ محمود صدقي محمد باشا قرارًا يلزم الحانوتية بنقل الأموات عبر سيارات تكريم الإنسان، وذلك لأنه من المرهق على مشيعي الجنازات أن يقطعوا على أقدامهم المسافات الطويلة من العباسية لمقابر الإمام الشافعي مثلاً، أو من مصر الجديدة إلى قرافة باب النصر.

اقرأ أيضًا 
قراءة تاريخية .. جوابات المصريين للإمام الشافعي “الحقيقية وليست التي في فيلم صاحب المقام”

كان ذلك القرار بمثابة ضربة قاصمةً لمصادر الدخل المالي للحانوتية في الخَرْجَة، ففي الأساس كانت لجنة الجبانات تعطي أجرًا للحانوتي يبدأ من 30 قرش ولا يزيد عن 55 قرش (حسب عنوان سكن الميت ومدى قرب دائرته من مقر قبره في الجبانات المختلفة بالقاهرة والتي كان حينها 10 جبانات).

جدول تعريفة الحد الأدنى لأجور الحانوتية سنة 1927م
جدول تعريفة الحد الأدنى لأجور الحانوتية سنة 1927م

وإلى جانب ذلك الأجر الرسمي كان الحانوتي يأخذ من أهل الميت أجرًا غير محدد قانونًا وإنما يتم تقييمه حسب المجهود المبذول في الخَرْجَة، فكلما طالت المسافة كلما زاد سعر التشييع، وبالتالي سيستفيد هو وصبيانه، فضلاً عن أن الحانوتي سيأخذ هدية من أهل الميت وهي طقم من ملابسه وكان ذلك فيه مكسب له، إذ يتصادف أن الميت من الطبقة الأرستقراطية أو المتوسطة، ويأخذ الحانوتي عباءة أو بدلة فاخرة، فيذهب بها لمحلات الروبابيكيا لبيعها وتحقق له مكاسب، وينضم لملابس الميت اللحاف الذي وُضِع عليه والشال الكشميري فهما من حقه وليسا هدية؛ وكانت هذه الأشياء تُحْدِث مشاجرات بين ثالوث توديع الميت بعد دفنه وهم الحانوتي والمغسل والتُرَبِي.

بالتالي فإن صدور قرار بسيارات نقل للأموات سيقلل المجهود المبذول في الخَرْجَة وبالتبعية سيؤثر سلبًا على ما يجنيه الحانوتي من أهل الميت ومن لجنة الجبانات نفسها، فتململ الحانوتية من ذلك القرار لكنهم رضخوا له لما فيه من عناصر الراحة للمشيعين.

جنازة ميت في القاهرة خلال الثلاثينيات قبل ظهور سيارات نقل الأموات
جنازة ميت في القاهرة خلال الثلاثينيات قبل ظهور سيارات نقل الأموات

كانت سيارات نقل الموتى في مصر التي قررتها لجنة الجبانات سنة 1930م هي سيارات مكشوفة، فإن كانت قد وفرت عنصر الراحة للتشييع، لكنها لم تحقق مقصد الستر لكرامة الموتى، إذ وارد من التيار الهوائي أن يزول الشال الكشميري عن الميت في الطريق ويتكشف الميت بكفنه فقط، فقررت لجنة الجبانات أواخر سنة 1931م أن تكون السيارات مغلقة ولها أرضية مصنوعة بحيث يوضع النعش فوقها ويمكن تثبيته فلا يتأثر ولا يتحرك من موضعه أثناء سيرها وهو الشيء الذي رفضه الحانوتية رفضًا قاطعًا وقرروا الإضراب عن عملهم.

سيارة نقل الأموات المكشوفة في القاهرة
سيارة نقل الأموات المكشوفة في القاهرة

رد الفعل من الحانوتية تجاه السيارات المغلقة، جاء لأن هذا القرار يعطي لأهل الميت الحق في ملازمة النعش طالما أن السيارة مغلقة والنعش مثبت، بينما السيارة المكشوفة تجعل الأولوية للمكوث بجانب النعش هم لصبية الحانوتي والذين يكون عددهم 4 لحماية كشف الميت في حال إذا طار الشال الكشميري من أعلى النعش بفعل الهواء الهواء، فضلاً عن أن الرجال الأربعة هم الذين يثبتون بأيديهم النعش في حال لو صادف الطريق مطبًا؛ وذلك جهد سيلقى تقديرًا ماليًا من أهل الميت؛ وبالتالي فالسيارة المغلقة والتي لها أرضية لتثبيت النعش تنحي تمامًا دور الحانوتي.

إضراب الحانوتية
بيان إضراب الحانوتية سنة 1932م

وفي عريضة رسمية قدم رؤساء 7 حوانيت بالقاهرة بمناطق السيدة زينب والمنيرة والخضري والسيدة سكينة والوايلي ومنشية الصدر وشبرا، احتجاجًا لمحافظ القاهرة بصفته رئيسًا للجنة الجبانات على قرار السيارات المغلقة وأعلنوا إضرابًا عن نقل الأموات يبدأ في 15 فبراير 1932م؛ حينها سخر المحافظ وقال: إذا أضرب الحانوتية عن عملهم، فهل سيضرب الأموات عن الموت !!، في إشارة إلى أن هذا الإضراب لا منطقية له، ولم يعير المحافظ اهتمامًا بالقرار خاصةً وأن سيارات نقل الأموات المغلقة بدأ تجهيزها بالفعل في عدد من أصحاب توكيلات السيارات في القاهرة والإسكندرية.

الحانوتية في أروقة الدولة من 1922م حتى 2024م

إضراب الحانوتية
محل حانوتي في القاهرة سنة 1933م

تلك الأزمة الناشبة في الثلاثينيات والتي يظهر منها مدى استغلال الحانوتية للأموات، ظلت قائمة حتى الآن مع اختلاف في التفاصيل، فمثلاً في إبريل 2024م قدم النائب محمد جبريل عضو مجلس النواب المصري مشروع بتعديل قانون الجبانات، وزيادة قيمة ترخيص ممارسة مهنة الحانوتية لـ 15 ألف جنيه، وإلغاء التراخيص الممنوحة لهم مالم تتوفر فيهم الشروط.

تلك التعديلات تستهدف رفع حالة استغلال أهالي المتوفين بسبب مغالاة الحانوتية في أسعار الدفن والصيانة والترميمات للجبانات، والذي يوقع الأهالي كفريسة مثالية لسماسرة المقابر.[3]

YouTube player

التقنين بين الدولة والحانوتية في مصر بدأ أول ما يدأ في من الملك فؤاد (لما كان سلطانًا) وذلك يوم 6 مارس سنة 1922م حيث أصدر قرارًا بتشكيل لجنة جبانات المسلمين، وجعل مهمة إعدادها من مسؤولية وزارات الأشغال (لاحقًا صارت وزارة الموارد المائية والري)، والحقانية (العدل)، والأوقاف والمالية والداخلية، ومهمة هذه اللجنة صيانة المقابر، حفظ الأصول الدينية في الجبانات، رقابة المشتغلين في تجهيز ودفن الميت، تحضير المشروعات الخاصة بالمقابر أو إنشاء مقابر  مقابر جديدة أو توسعة مقابر قديمة، تحضير مشروعات الطرق المؤدية للجبانات، وضع تخطيط ورسم عمومي لتأسيس جبانات، وضع لائحة تنظيمية لعمل الحانوتية.[4]

صدور قرار تشكيل لجنة الجبانات
صدور قرار تشكيل لجنة الجبانات

مع حلول يوم 4 مارس سنة 1926م، صدرت لائحة تنظيمية للجبانات، لضبط سير عمليات الدفن والأحواش، ولم تشمل لائحة الجبانات تنظيم سير عمل الحانوتية، إلى أن صدر قانون ينظم تلك المهنة في 26 يناير 1927م.[5]

حددت اللائحة شروط مهنة الحانوتي والتُرِّبي، فوضعت للحانوتي 9 مواد في شروطه، منها أن يكون مسلمًا وليس عليه سوابق جنائية أو تهم مخلة بالشرف، أو يعمل في بيع الخمور أو صالونات القمار، وأن لا يجمع بين مهنتين، وأن يكون له منطقة عمل (دائرة إدارية يتبعها) ولا يعمل بغيرها، وأن يكون للحانوتية رئيسًا، وإلزام كل حانوتي بالقراءة والكتابة وهو شرط غير ملزم للمغسل.

إقرأ أيضا
تامر عاشور

أما عمل الحانوتي نفسه من حيث المسؤوليات الملقاة عليه فهي التوجه لمحل الميت وإبلاغ طبيب القسم الذي حدثت فيه الوفاة، ويقوم الحانوتي والطبيب بإجراء محضر فيه بيانات الميت الشخصية (الاسم واللقب والعنوان والمهنة والجنسية) وتاريخ الوفاة، وبيان الورثة وأسماء الأقارب، وإثبات له له تركة أم لا، وتبصيم الميت لو لم يكن معه ختم، ويتم إبرام المحضر بحضور اثنين ممن لهم معرفة بحال الميت، ثم يقوم رئيس الحانوتية بإبلاغ المجلس الحسبي بالمحضر وإرساله له.

بداية نص لائحة الحانوتية في القاهرة
بداية نص لائحة الحانوتية في القاهرة

ذلك القانون وإن وضع نظامًا للحانوتية فقد أرسى قواعدًا للأجور وذلك كان (مَزْنَق المهنة التي صارت سبوبة)، فالقانون في مادته التاسعة والعشرين ألزم الحانوتية بأنه إذا تبرع لهم أهل الميت بملابس أو مفروشات أو غيرها، يجب عليهم تسليمها لمصلحة الصحة لتبخيرها بمجرد استلامها مالم يعطهم طبيب الصحة المختص إقرار كتابي بعدم لزوم التبخير، كما على الحانوتية تدون بيان الأشياء التي أخذوها من أهل الميت في دفتر إيرادات، ومخالفة أي شرط من الشروط المنصوص عليها في المواد ال31 للقانون تكون عقوبته الإنذار أولاً ثم توقيع غرامة لا تزيد عن 5 جنيهات، ثم توقيف عن المهنة 6 شهور، ثم الحرمان من المهنة تمامًا.

بداية التلاعب بالقانون لاستغلال أهل الميت من الحانوتية بدأ في أن الحانوتي ضم لمهام مهنته مهام أخرى وهي أن يقرأ هو أو من ينوب عنه بالإشراف المباشر منه ربعًا من القرآن يوميًا لحين الأربعين، ثم يتولى إيفاد من يزور المقابر مع أهل الأموات يوم الجمعة من كل أسبوع على مدار سنة ليتلوا ما تيسر من القرآن، وبالتالي فإن كل تصرف من هذا أو ذاك يعطي له مقدارًا من المال، يضمن به استرسال العطاء المالي على مدار سنة، في حال لو لم يأخذ مالاً يتخيله في التجهيز والخَرْجَة واكتفى أهل الميت بترضية له.

كل مظاهر الاستغلال تلك جاءت بموجب ذلك القانون الذي أعطى الحانوتي صلاحية الاتصال بالمغسل، وصلاحية الاتصال بتجار الأكفان، وله في الحالتين نصيب من المكسب، لكنهم لم يلتزموا ببنود القانون حرفيًا وحدث تمييز في تشييع الأموات، فمثلاً إذا كان الميت شخصيةً عظيمة يقوم رئيس الحانوتية بجمع عدد كبير من أمهر مساعديه الذين يقرأون ويكتبون لكي يرتلوا ما تيسر من القرآن الكريم وأبيات البُرْدَة وورد من دلائل الخيرات (وهو كتاب أوراد في الصلاة على النبي)، أما إن كان الميت من الطبقة المتوسطة فهو لا يتولى مهمة التنسيق بنفسه ويدفع بفريق آخر لأداء الواجب، أما لو كان فقيرًا فهو لا يهتم بمظاهر توديع الميت اللفظية ويكتفي بإرسال فئة يرددون التهليل فقط[6]؛ ولذا خرج المثل الشعبي المصري الدارج «إيش جاب العبد لسيده؟ قاله دا له طلعة ودا له طلعة».[7]


[1]  The History of the Hearse, meadowlawn, No date
[2]  مجلة الدنيا المصورة، ع189، يوم 2 مارس 1932م، ص8.

[3] محمد جبريل، النائب محمد جبريل: قانون الجبانات الجديد ينهي التصرفات الهمجية مثل نبش القبور أو الاستيلاء على مقابر الغير، موقع الشروق، 18 إبريل 2024م
[4]  جريدة الوقائع المصرية، ع25، يوم 13 مارس 1922م، ص ص1–2.

[5]  المرجع السابق، ع17، يوم 28 فبراير 1927م، ص ص3–6.
[6]  مجلة الدنيا المصورة، ع88، يوم 14 أغسطس 1930م، ص8.
[7]  المثل الدارج لم يفسره أحمد تيمور باشا بأن له صلة بالحانوتية، وإنما قيل بشكل عام حول السيادة والعبودية البشرية؛ انظر :-
أحمد تيمور باشا، الأمثال العامية، ط/2، لجنة نشر المؤلفات التيمورية – مطابع دار الكتاب العربي، القاهرة – مصر،1956م، مثل 706، ص 126.
    • ملحوظة :- مكتبة هنداوي قام برفع ونشر الطبعة الثانية من كتاب الأمثال التيمورية لكنها أرختها بتاريخ الطبعة الأولى (1949م) وهذا خطأ لأن تلك الطبعة لم يكن قد أضيف المثل في باب حرف الألف، والطبعة التي  أضافته هي الطبعة الثانية (1956م)
لكن رضا البطاوي نقد تلك النظرية وقال أن تفسير المثل بالقطع خاطىء فهناك عبيد أفضل من مالكيهم والمثل يبدو أنه قيل من الحانوتية الذين يدفنون الموتى مع أن الناس عند الموت كلهم واحد
انظر :- رضا البطاوي، نقد الأمثال العامية، موقع أهل القرآن، 13 أغسطس 2015م.

الكاتب

  • إضراب الحانوتية في مصر وسيم عفيفي

    باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان