كامل الشناوي ونجاة الصغيرة.. حب من طرف ثالث
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
أنهى العاشق تحضير مفاجأته لمعشوقته في يوم ميلادها، اشترى كل مستلزمات الحفل بنفسه، استمتع بكل تفاصيل شراء الحلويات والمشروبات بل وحتى البالونات لأنه يدرك بفطرته حجم البهجة التي ستمنحها له تلك التفاصيل.
طرق الباب متواطئاً مع الخادمة وساعدها في ترتيب كعكة الميلاد وتعليق الزينات منهياً ذلك بالتأكيد على الأصدقاء على موعد الحضور تليفونياً .
كان يتحرك في الشقة على أطراف أصابعه ويتحدث همساً حتى لا يقلق نوم محبوبته التي لم تكن تستيقظ قبل العصر، ثم غادر مسرعاً ليبدل ملابسه ويعود في الموعد.
وفي المساء بينما كان كامل الشناوي يعود لشقة نجاة الصغيرة التي استقبلته شاكرة على مجهوده بابتسامة باهتة، ثم أسرعت لتجذب يد يوسف إدريس ليطفيء معها الشموع متجاهلة الشناوي الذي انزوى بعيداً على أحد المقاعد متابعا الحفل بعينيه.
وعلى الرغم من كل الصخب الذي يحيط بذلك النوع من الحفلات لم يسمع هو غير صوت تلك القبلة التي طبعها إدريس على خد نجاة، لم يرى أيضاً إلا عندما سحبها من يدها لغرفة جانبية ترك بابها موارباً ليغرقا في قبلة طويلة ويغرق هو في دموعه وينصرف على أطراف أصابعه أيضاً وكأنه قدر الذين يحبون من طرف واحد ألا يلحظهم أحد ويعيشون الحياة على أطرافها بأطراف أصابعهم.
وفي مكتب مصطفى أمين كان كامل الشناوي يذرف دموعه وينتحب وهو يكتب قصيدته الشهيرة” لا تكذبي، إني رأيتكما معا، دعي البكاء فقد كرهت الأدمع”، ثم قرر أن يتصل بنجاة تليفونياً ليسمعها قصيدته قبل أذان الفجر، ألقاها بكل زفراته ودموعه ولم يقطع إلقائه إلا بعض لحظات النحيب، فردت نجاة الصغيرة بعد أن أنهى القصيدة قائلة” حلوة، تنفع أغنية، حغنيها” وأغلقت الهاتف.
يقولون أن قساة القلوب لا يحبون، والحقيقة أن القساة بلا قلوب.
«لا أفهمها، فهي امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني..؟، هل تريد أن تحييني أم تقتلني..؟»
لا يعرف كامل الشناوي ماذا حدث في قلبه عندما سمع نجاة تغني يوماً ما في شقة مأمون الشناوي، وجد نفسه ذائباً في تلك الشابة التي تصغره بثلاثين عاما، عجز ابن الخمسينات أن يقاوم حب ابنة العشرينات، فقد كل خبرات السنين وتقدم تجاهها دون أن تطرف عينيه ليخبرها أنه يحبها، ابتسمت كما ستبتسم دائماً بعد ذلك، هزت رأسها في غنج وأخفت عينيها في خجل، كانت ابنة العشرين قد خاضت تجربة زواج فاشلة عندما بلغت السابعة عشر من كمال منسي، الذي طلقها عام ١٩٦٠ لتلتقي بكامل الشناوي الذي اصطحبها وحده بعد ذلك ليعرفها على كبار الملحنين والمؤلفين، بل وجمع حولها مجم،عة المثقفين أمثال محمد التابعي، فكري أباظة، محمود الشريف، ورؤوف ذهني.
اعتبرها حلم حياته واعتبرته مشروعها الشخصي، أعطاها كل ما لديه ولم تعطه سوى وعود ونص ابتسامة وربع اهتمام، فقال في يأس عشاق الطرف الواحد “«لا أفهمها، فهي امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني..؟، هل تريد أن تحييني أم تقتلني..؟».
حين يملك البعض قلوباً لا تنبض تجاه أشخاص يحبونهم، ينسحبون ويبتعدون حتى لا يؤلموهم، لكن أولئك القابضين على من يعشقهم ولا يحبونه فقدوا قلوبهم في نفس الكوكب الذي تعيش فيه قلوب القساة بعيداً عن أرواحهم.
“كانت بروفة للموت”
دخل كامل الشناوي في غيبوبة عام ٦٤ قبل وفاته بعام، وعندما أفاق منها قال ساخراً أنها كانت بروفة للموت، كانت نجاة الصغيرة في ذلك التوقيت قد ذاع صيتها بعدما غنت لمجموعة من كبار الشعراء والملحنين وانتهت قصتها مع يوسف إدريس ودخلت في قصة أخرى غيرها، وكان هو يزوي وينطفأ إلا أنه ظل عاشقاً يمنح ويبذل لمن لا يرفض.
تحول الشاعر الذي كان يخشى الموت لدرجة أنه كان يستدعي سائقه الخاص ليجوب به شوارع القاهرة طيلة الليل لأنه يخشى أن يموت إلى زائر معتاد للمقابر، ليلخص حياته قائلاً «ولكن أيامي اليوم قليلة … وانتزاع عام منها يشعرني بالفقر والفراغ والعدم فمنذ تجاوزت الأربعين وحدي … كما تجاوزت ما قبلها … لا صحة ولا مال ولا زوجة ولا ولد ولا صديق … ولكن علام نبكي الحياة … وماذا لو رحلت عنا أو رحلنا عنها … ما دام الرحيل هو الغاية والهدف».
كانت الوحدة هي محرك العشق من طرف واحد، الوحيدون ضعفاء بالفطرة، ومن كان له قلب شاعر لابد أن تقتله الوحدة.
حبيبها لست وحدك حبيبها .. حبيبها انا قبلك
وربما جئت بعدك وربما كنت مثلـــــــــــــــك
أي هوان قد يصيب عاشق لا يجعله يكتب هذا الشعر، العشق كالتوحيد لا شرك فيه، لكنه فعلها وكتبها مما دعى مصطفى أمين لأن يقول :”«كان كامل يحاول بأي طريقه أن يعود إليها..يمدحها ويشتمها.. يركع أمامها ويدوسها بقدميه.. يعبدها ويلعنها..وكانت تجد متعه أن تعبث به، يوما تبتسم ويوما تعبس، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه..تطلبه في التليفون في الصباح، ثم تنكر نفسها منه في المساء».
لم يعنيها إطلاقاً الاكتئاب الشديد الذي دخل فيه بعد الغيبوبة، كان الأصدقاء المشتركون يهمسون لها بأن جراح الحب تقتله، يتضرع بعضهم لها أن تنقذ حياته بالابتعاد على الأقل، إلا أنه بقى على العهد وبقيت كما هي حتى غادر الحياة في ٣٠ نوفمبر ٦٥ ، عن ٥٧ عاماً وتزوجت هي المخرج حسام الدين مصطفى بعد وفاته بعامين.
رحل ليستريح من لعنته المخيفة وكأن الموت هو الراحة الوحيدة لأولئك الذين عشقوا من طرف واحد ربما ليلتقوا بقلوب الذين استغلوهم في ذلك الكوكب البعيد الغريب.
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال