رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
309   مشاهدة  

“كان على جسدي علبة مغلقة” كيف يكون لي فتاة أحلام!

فتاة أحلام


الأماكن الضيقة لا تصنع إلا أفقًا ضيقًا..وكانت قريتنا كذلك، وكان على جسدي علبة مغلقة!

رؤس الناس في قريتنا علب مغلقة، كنّا 40 ألف نسمة، بأربعين ألف علبة مغلقة تعلو الجسد، الحكايات بمفرداتها، الأحداث بتوقيتاتها، الشخوص بملابسها وطباعها وسلوكياتها، لا تتغير، كل شيء يحدث كل يوم بنفس الرتابة والملل!

رأسي كان علبة، لكن حشوها كان مختلفًا، دفعت دفعًا إلى ذلك، قادني شغفي إلى أن أعيش مع خالي في منزله، فقط لمشاهدة الأفلام والمسلسلات، والدي رفض دخول التلفزيون بيتنا، حفاظًا على أداءنا في المذاكرة، لذا كنت أتحمل أن يغلق خالي باب شقته التي كان يستعد للزاوج فيها، لساعات طويلة، أبدأها بفيلم الظهيرة، وانهيها بمسلسل المساء، بدون أن يدخل جوفي “لقمة” واحدة، لم يطرؤ على بالي أني لم آكل ولو لمرة واحدة، إلا في هذه اللحظة، الآن!

كل شيء كان يسير في خطوط، علبة أعلى الأجساد، تخطط، لا شيء يخرج عن هذا الإطار، الطفل يذهب للُكتاب،ممنوع الاقتراب من الفتيات إلا في المدرسة بحكم أن الفصول مشتركة، لكن أسوارًا وأسوارًا بيننا وبينهن، لم يجرؤ أحدنا “الأولاد” أن يتحدث مع إحداهن، وزادنا الخوف مسافات ومسافات بينهن، خلقناها بوعينا دون أن ندري، تحت التهديدات والوعود والتحذيرات والأوامر والعواقب.

كنت وحيدًا، في الفسحة المدرسية، أجلس بمفردي، زملائي يجرون كالخيول هنا وهناك في “الحوش”، لكني لا طاقة لي لذلك، شيء ما يدفعني إلى الخروج من هذه الأسوار، لا يمكن أن يعيش الإنسان في زمن مخنوق، محدد بتصرفات مرسومة، بعد المدرسة سأذهب إلى البيت، انتهي من واجبي تحت عصا والدي، ثم أنام، وهلم جرا الأيام، هل تخيلت الكارثة؟!

إخوتي ثلاثة، أو اثنين، أو خمسة، زد عليهم أو انقص منهم، لايهم، المهم أنه لايوجد في بيتنا “فتاة”، “أخت”، وهو مازاد من أسواري تجاه عالمهن، كيف يضحكن؟ كيف يتكلمن؟ كيف يفكرن؟، فتيات المدرسة، كن يمشين وفق حط مرسوم من البيت أولًا، ثم خطوط المدرسة، لذا كن أشبه بالدمي، أثداء صغيرة، أجساد فتيات، علب مغلقة على رؤسهن أيضًا، لم أكن أعرف كيف تبكي الفتيات؟، لم تبك فتاة واحدة أمامنا في الفصل، أو تضحك، تشارك في الأنشطة المدرسة كالروبوت!

فتاة أحلام

مشهد غروب الشمس في قريتنا، كان يقبض قلبي، كنت انتظر القيامة كل يوم، ما الذي يحدث بعد أن تنتهي حدود قريتنا، كيف يعيش الناس هناك؟ هل يأكلون أكلنا؟ كيف يتحدثون؟ هل لغتهم مثل لغتنا؟ غليظة وجافة في غالبها؟، لك أن تدري أن القبور تتوسط قريتنا؟ نمر عليها كل يوم؟، كل  شيء لحظة غروب الشمس ، يرحل، الناس يدخلون منازلهم، الطيور تدخل أعشاشها على الأشجار، وما أكثرها في قريتنا، أصدقائي، لديهم تلفزيون وأنا لا، يمكنهم أن يشاهدوا عالمًا آخر غيري الذي اراه كل يوم لحظة غروب الشمس، الموت كان يزورني كل يوم، القرية تموت كل يوم لحظة غروب الشمس، إلا أصدقائي أصحاب التلفزيونات الملونة!

كنا نخجل من أن نتحدث إلى فتاة، ماذا نقول لو تحدثنا معها أصلًا؟، المرأة في قريتنا طالبة في المدرسة، ثم زوجة في البيت، لا توجد ثمة مسافة يمكنها أن تخلق لنا خيالًا تسكنه فتاة، أو امرأة، كنا أتعس من الطائر الذي يسكن على أغصان شجرة قريتنا!

خيالي كله كان عن الموتى، عن الناس خارج قريتنا، وعن الشخوص في الأفلام والمسلسلات التي كنت أتعذب لأشاهد فيلمًا واحدًا، أو أقضي يومًا واحدًا أمام التلفاز، العادات والتقاليد والإطارات التي نحسبها كي نخطو خطوة إلى منزل مجاور مرهقة، جافة، حتى خالي كنت أحسب اليوم الذي يتركني أمام تلفازه الملون، هل يمكن أن يتركني في اليوم التالي؟!

كبرت وكبرت العلب المغقلة على رؤسنا، وكل شيء يسير وفق ما هو مرسوم ومحدد له، أنساق وأنساق، حياتنا كلها محرمات، العادات والتقاليد، كادت أن تقضي على رأسي، لو أنني كنت أسرق الكتب والقصص الملونة من مكتبة المدرسة أو مركز الشباب، لكن أول مجموعة قصصية وقعت في يدي كانت “أرني الله” لتوفيق الحكيم، فرآها أستاذي الذي ضمني إلى مجموعة من أصدقائي المتفوقين وفق المجموع الدراسي، تحت سقف شباب “الإخوان المسلمين” دون أن نعرف، وقال لي يومها: اقرالك كتاب بنفعك أحسن!

إقرأ أيضا
الموت

ولم أنس اللحظة التي كنت أسرق فيها كتب عباس العقاد، وكان استاذنا يقف أمامنا في الفصل، ويعترف بكل بلاهة يظنها فخرًا:”أنا مبفهمش عباس العقاد ده، ولا بقرأ له”، يومها شعرت بالفخر، أفهم مالا يفهمه أستاذي!

طفولة بائسة ، قضيتها بعلبة مغلقة على جسدي، تحولت عقلًا وقت اللحظة الأولى التي خرجت فيها من قريتنا، عرفت كيف يعيش الناس خارجها، كيف يتكلمون؟ كيف يتصرفون؟ سمعت لهجتهم؟ تأكدت أن الموت يسكن قريتنا نحن فقط، فالناس خارجها يسهرون، يتحدثون مع الفتيات عادي جدًا؟ وأنا كنت أخجل أن أتضاحك مع والدتي، عيب، هكذا تعلمنا!

علب مغلقة على أجسادنا، أسوار بيننا وبين كل شيء، غروب الشمس يقتل اليوم، كل شيء ميت في وقته تمامًا، فكيف يتحرك خيالي وسط هذه الجثث ويكون لي فتاة أحلام!

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان