كحك بالنوستاليجا !
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
منذ يومين تسللت من نافذة غرفتي رائحة كحك وبسكويت، كانت الرائحة بمثابة آلة زمن، عادت بي لسنين مضت، حملتني لنحو أربعين عامًا للوراء.
كنت وقتها في الخامسة من عمري، وكان أبي في بداية شهر رمضان من كل عام يشتري من عم سيد العلاف ثماني كيلوات من الدقيق، وفي بعض الأحيان عشرة، يحملهم على دفعات ويصعد بهم للطابق السابع حيث كان منزلنا القديم، ثم ينزل بهم السبع طوابق قبيل العيد بأيام، يضعهم مع حقائب بها بعض الملابس الخفيفة في سيارتنا السيات البيضاء التي تحملنا إلى منزل جدتي لأمي.
ترتسم فوق وجه جدتي ابتسامة مشرقة وهي تخبرنا بصوتها الناعم الجميل أنا و شقيقتي: ادخلوا ناموا قبل الفطار شوية عشان السهرة صباحي النهاردة يا بنات.
نتحايل على النوم كي يتسلل إلى أعيننا، ولكن تلك الحماسة اللعينة التي تطرده من بين أجفاننا وتؤرق مضاجعنا، نتقلب في الأسرة ونحن نتخيل الكحك والبسكويت، ونتساءل بطفولة : هل تسمح لنا الجدة بعمل أشكال عرائس من عجينة الكحك ؟ وهل تأذن لنا بوضع حبات الزبيب والفول السوداني والقرنفل فوق الغريبة ؟؟ هل تجيز لنا أن نلصق قطع البيتيفور بالمربى ؟ ومن منا سوف يقف على ماكينة البسكويت ويلف ذراعها بشكل دائري حتى تَكل ذراعه ؟؟
نغفو ونستيقظ على موعد الإفطار، نتناول إفطارنا، ثم تشرب الجدة الشاي وتعد العدة لنبدأ عمل الكحك، تضع صفيحة السمن فوق بوتجازها الناصع البياض، وفي أثناء تسييح السمن تفك أكياس الدقيق وتسكبها في طشت ألومنيوم كبير وواسع، وتضع فوقه السمسم وروح الورد، ثم تصنع بداخل الخليط حفرة بيضاء عميقة كثقب أسود، تسكب بداخلها السمن الذي يغلي في جنون، نبتهج ونهلل لتلك الفقاقيع الكثيرة التي تظهر ما أن يختلط السمن الذائب بحواف حفرة الدقيق.
نحقق ما كنا نتخيله في قيلولتنا، تسمح وتأذن وتجيز الجدة كل ما كنا نحلم به، عرائس وأشكال مضحكة تقبع في الصاجات السوداء، تنتظر العيد أيضًا حتى تبتهج وتبهجنا، وفوق الغريبة ترقد حبات القرنفل والزبيب والفول السوداني في سلام ورضا، تبدو قطع البيتيفور بلونيها الأبيض والبني كالنهار والليل يجتمعان في آن واحد، كلل لذيذ في الأذرع والأرجل والأقدام والمفاصل من دوران ماكينة البسكويت.
يحمل صبي محل الحلاقة لأخوالي رحمهم الله ورحم أمي وأبي وجدتي وجدي الصاجات فوق رأسه ويذهب للمخبز ويعود بهم فوق رأسه مرة أخرى، تخرج من المنازل الصغيرة الراضية روائح واحدة، وصاجات سوداء كثيرة، ثم بعد ثلاثة أيام تخرج منها أيضًا صناديق كرتونية ترص بداخلها قطع الكحك والبسكويت والغريبة والبيتيفور، يهدي بها الآباء عائلاتهم وأقاربهم وجيرانهم وأصدقائهم وزملائهم.
أشتاق لتلك الأيام كثيرًا، أشتاق لسهد جفوننا حتى لا ننعس كي لا نفوت لحظة من لحظات اللمة حول طشت جدتي، أشتاق لمذاق الكعك الذي كانت تعده بين يديها تصنعه، رحمة الله على حلوى العيد والجدات طهر الدنيا، رحم الله أيامًا كانت عامرة بالحب والصفاء والنقاء والبساطة والمحبة، رحم الله كل من ترك أثرًا جميلًا نتذكره عندما تقسو الحياة.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال