” كما يراها الأثريون” .. كيف كانت ثنائية العامل والملك في مصر القديمة؟

“اجتهد في كل وقت، افعل أكثر مما هو مطلوب منك، لا تضيع الوقت إذا كنت قادرًا على العمل، مكروه كل من يسئ اغتنام وقته، لا تهدر فرصة تعزز ثروة بيتك، فالعمل يأتي بالثروة، والثروة لا تدوم إذا هجرت العمل”، تلك الكلمات نُقشت على الجدران في المعابد والبرديات المصرية لتعلي أولًا شأن العمل والعاملين، ومن تلك الكلمات نستطيع أن نقول أن الحضارة المصرية التي نفتخر بها اليوم لم تكن وليدة الصدفة، وإنّما قائمة على أسس علمية وأدبية نراها مدونة في الحفريات أو مع كل اكتشاف أثري جديد.

 عبقرية الدولة لدى المصري القديم

يعجز الكثير عن فهم عبقرية المصريين القدماء، ونتساءل كيف صنع هؤلاء كل تلك الحضارة على امتداد زمني طويل؟، كيف استطاعوا إنشاء دولة قوية قائمة على أسس سياسية واقتصادية واجتماعية ودبلوماسية بمفهومنا نحن اليوم والفارق الزمني أكثر من 7000 سنة ؟ كيف صنعوا المجد؟.

الدكتور “تامر رضوان” مفتش آثار بسقارة ومشرف على أكثر من 50 موقع حفري في مناطق أثرية متنوعة يجيب من خلال اطلاعه على البرديات ونقوش المعابد عن تلك الأسئلة فيقول:” القدماء المصريون استطاعوا ببساطة تحويل أي محنة إلى منحة، بحيث إذا سقطت الدولة في مشكلة كانوا قادرين على صنع المستحيل لتجاوز تلك المشكلة، فكان الهدف واضح ؛ دولة قوية قائمة على أسس لتكون هي الأولى في مصاف الدول ـ إن وجدت ـ آنذاك .

العمل سبيلك للحصول على الجنسية المصرية

ولمّا كان هدف المصريين القدماء بناء الدولة، فكان على الحاكم الواعي أن يضع القوانين الصارمة لكل من يُقصر، ويمجد ويعظم كل عامل  يتميز ويجتهد في عمله، وعلى هذا كما يقول ” رضوان” للميزان: إن شرط حصولك على الجنسية المصرية ليست بميلادك في مصر، وإنما بما تقدمه من عمل وإضافة للدولة المصرية، وإن لم تفعل فأنت تعامل كمواطن من الدرجة الثانية، لذلك كان العمال والحرفيين هم الطبقة الثانية في المجتمع المصري بعد طبقة الفرعون و الوزراء.

ويعلق ” رضوان” نال العمال حقوقهم كاملة في مصر القديمة فهم يعاملون كمواطن من الدرجة الأولى، لذلك كان لزامًا على الدولة إمداد العمال وأسرهم بالمواد الغذائية المتنوعة من قمح وشعير وأسماك وماء والجعة كل هذا مجانًا من مخازن الدولة تقديرًا لعملهم واجتهادهم فيه .

العمالة الحرفية والوزير 

ويضيف إن الأعمال الحرفية في مصر كانت تخضع  لنظام دقيق يحكمها وتخضع لإشراف كامل من قبل الوزير المسؤول الثاني في الدولة المصرية بعد الملك، إضافة إلى كونها الطبقة الأكثر استقرارًا مهنيًا فالعمل في مصر القديمة كان دائمًا، لذلك نالت تلك الطبقة تقدير تام من الحاكم ، وهذا ليس كلامًا مسترسلًا وإنما وهو نقش على لوحة تذكارية أقامها الملك رمسيس الثاني  في معبد” أيونو”، قال مخاطبًا  عمال المحاجر “ملأت المخازن بجميع الفطائر واللحوم والكعك لتأكلوها، وأنواع العطور لتعطروا رؤوسكم بها كل عشرة أيام، وصنادل تنتعلوها كل يوم، وملابس تلبسونها طوال العام ..عينت لكم رجالا يحضرون لكم الطيور والأسماك، وآخرين يحسبون كم هو مستحق لكم، أمرت بتشييد ورشة فخار تصنع لكم الآواني الفخارية ليظل ماؤكم صافيا في الصيف، ومن أجلكم أبحرت السفن دومًا من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجَنُوب تحمل لكم الشعير والحبوب والقمح والملح والخبز”.

تكريم العمال في مصر القديمة 

إقرأ أيضا

تبرير العنف ضد الأبناء وعلاقته بالفقر

لكل مجتهد نصيب مقوله نعرفها جيدًا ونعيها ، وكان نصيب العمالة في مصر القديمة كما يقول” رضوان” كبيرة فهناك مسؤول يدعى ” منى” يقول إنه  كافأ بسخاء كل من ساهم في بناء وزخرفة مقبرته: “لن يندم أبدا كل من ساهم في بنائها، سواء كان فنانا أو قاطع أحجار، لقد أعطيت كل شخص مكافأته”، مؤكدًا أن هذا ليس النص الوحيد فهناك نص آخر لأحد الملوك يحمل نفس المعنى”جميع من عملوا في هذه المقبرة نالوا أجرهم بالكامل من خبز وجعة وملابس وزيت وقمح بكميات كبيرة، كما أنني لم أُكره أحدًا على العمل”.

وأخيرًا إذا أردت أن تبني دولة قوية كما فعل المصريين القدماء عليك أولًا أن تفتش عن العامل البشري من مبدعين وحرفيين وعمال فقوام الحضارة التي عجز العالم عن تفسيرها إلى اليوم ما هي إلا عامل بشري مدرب.. اجتهد وقدرت الدولة متمثلة في الملك مجهوداته معنويًا وماديًا،وهذا إحدى الأسس التي قامت عليها الحضارة المصرية .