كوكب المواصلات
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
مشكلة المواصلات العامة في مصر مركّبة لدرجة فريدة من نوعها، فمبدئيًّا كده الخدمة دي موجودة بس في القاهرة الكبرى والأسكندرية الشقيقة، غير كده ماحدش يعرف يعني إيه أتوبيس هيئة.
اقرأ أيضًا
خداع النوستالجيا .. كيف كشف الترام عن وجه القاهرة القبيح
ومشاكل الموصلات العامة في القاهرة رهيبة، فما تسير منها فوق الأرض، أبطأ من نظيرتها الخاصة مثل التاكسي بل وحتى الميكروباص، طبعًا باستثناء ميكروباص الجمعية اللي يعد أسوأ مواصلة عرفتها الإنسانية منذ القنفد الهزّاز، وده بحكم توقفها المتكرر عند المحطات الرسمية، وطبعًا غير الرسمية تلبية لنداءات المواطنين الرافضين للاعتراف بالمحطة الرسمية كمكان موحّد للصعود والهبوط، رافعين شعار “يعني هي ظبطت في كل حاجة ومش باقي غير دي؟”، في إشارة إلى بانيو الفوضى اللي بيعوم فيه المواطن المصري منذ شهادة الميلاد حتى تقرير الطبيب الشرعي.
البطء مش مشكلة المواصلات الوحيدة، وإلا كان الأمر مقدور عليه، المشكلة الأكبر هي المواعيد، من سنين طويلة ومدينتنا الجميلة ماتعرفش حاجة عن أنضباط المواعيد، لذلك لا يعد التأخير “أمر جلل”، ما يظهر جليًا في مواعدتنا لبعضنا البعض.. واللي عادة بتعتمد على مصطلحات مطاطة تفتقد لأي بنُص جنيه دِقة.
بعد الضُهر.. هي فترة هيولية تمتد من أذان العصر حتى غروب الشمس.
بالليل.. هي الفترة من بعد غروب الشمس حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
والأمر هنا ليس شعبوي فقط.. بل رسمي أيضًا، فمن الصعب أن تجد توافقا ما بين ساعة الجامعة ونظيرتها في السكة الحديد وشقيقتهما في التليفون الأرضي ولا داعي هنا لذكر ساعات شبكات المحمول المستقلة ماليًا.. وزمنيًا، بقليل من المبالغة نقدر نقول أن كل مواطن له خط طول خاص به.
بشكل عام تنقسم المواصلات العامة في القاهرة لتَلَت أقسام:
- قسم فوق الأرض.
- قسم تحت الأرض.
- قسم يوم العرض عليك.
فوق الأرض تحدثنا عن الوقوف المتكرر بشكل مبالغ فيه، ولم نتحدث عن العته المروري لأنه يقع على الجميع، لذا اعتبرته عنصر محايد كالماء والهواء والفتاكة.
فيه بقى مشاكل نوعية للمواصلات العامة، قسم فوق الأرض، فهناك “تابو” يسمى “خط السير”، لذا فالراكب المتجه من المعادي إلى شارع قصر العيني، إذا ركب أتوبيس المعادي/إمبابة، يجد نفسه مضطرًا لخوض غمار شارع المنيل رضوخًا لخط السير، والمتجه من العتبة للتحرير سيجبر على زيارة باب الخلق.
خط السير كفكرة هو سلاح ذو حدين، فأحيانًا يقرر السيد سائق المركبة تغيير خط السير هذا فجأة ودون سابق إنذار، ما يخلق مجموعة من المتضررين جغرافيًا وماديًا، فتنطلق الصياحات الغاضبة ويدفع الركاب بعضهم البعض من أجل النزول بسرعة عشان مايتسوّحوش أكتر من كده، أو عشان يتخانقوا مع السيد قائد المركبة.
أما أهم مشاكل المواصلات العامة -فوق الأرض أو تحتها- هو إضطرار الراكب/ة على ممارسة رياضة الغوص في الجماهير، بفرعيها، الجسدي والحياتي، جسديًا يلاقي المواطن نفسه مضطر يغوص وسط أكوام من اللحم البشري مختلفة الكثافة والملمس والرائحة، بداية من الناس اللي بتحط مزيل العرق أولًا يليه البرفان وصولًا لمن يتعامل مع الحموم بوصفه استعداد لحفلة تنكرية، ده غير تنوع الكثافة الجسدية.. فيه أجسام كاوتشية وأجسام صلبة وأخرى محبحبة.. إلى آخر تنوعية الأجسام اللي مش من حقك كراكب تختارها.
أما على صعيد الغوص الحياتي، فيجد الراكب نفسه متورط في حياة عشرات من البشر لا يعرفهم ولا يعرفوه، وكلهم بالنسبة لبعض كومبارسات بيكملوا المشهد، لأن مايصحش برضه يبقى المشهد مافهوش غير البطل، حواديت وأسرار وفضايح لا علاقة لك بها تسمعها وتعايشها وأحيانًا يتاخد رأيك فيها بوصفك “مش غريب”، كما لو أن الغريب ده لازم يكون فوشيا وبيصقف بودانه.
يمتاز قسم “تحت الأرض” عن نظيره “فوق الأرض” بالسرعة، وهو ما يجذب المزيد من الركاب.. يعني المزيد من أنواع اللحم والعرق والحواديت، ولأن المترو مكان مغلق أكتر من الأتوبيس بالتالي عملية التنفس أصعب بمراحل، ومُعدلات اختلاط روايح العرق بالغازات أعلى.. ونتايجه أخطر جدًا، تاني المميزات هي عدم الوقوف في إشارات.. بس احتماليات الأعطال، وهي متوفرة، بتبقى قاتلة.. أشبه كده بالحبسة في الأسانسير.
بالعودة للمشتركات بين القسمين، نشوف مثلًا النشالين والشحاتين وطبعًا البياعين.. ودول تحديدًا بيقدموا خدمة فوق الطبيعية، فهم يوفرون للركاب كافة شيء، فلو تخيلنا أن هناك مواطن ركب مواصلة عامة من أول الخط وهو ملط، يقدر ينزل في آخر الخط وهو في كامل هندامه ومعاه شوية أكسسوارات.
كمان بيشتركوا في خناقات التحرش، يزيد عليها في المترو خناقات المتنطعين اللي بيركبوا عربية السيدات، والإثارة في الخناقات دي مصدره المدافعات عن حق النطع في ركوب عربية السيدات.
أما أهم مشترك بين قسم فوق الأرض وقسم تحت الأرض فهو القسم التالت نفسه، قسم يوم العرض عليك، القسم ده هو تجميعة لمجموعة الحوادث القاتلة في القسمين الأول والتاني، حيث لا يخلو الأمر من أتوبيس يرمي نفسه من فوق كوبري، أو مترو يتزحلق ع القضبان فيرشق في سقف النفق، ميني باص يخيش في سور ولا مترو يعطل في النفق لغاية ما كام مواطن يفرفروا من الاختناق.
إن المواصلات العامة هي عالم كامل مستقل بذاته، يصعب على أمثالي شرحه.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال