همتك نعدل الكفة
442   مشاهدة  

كيف أكلنا أصنامنا؟

الأصنام العجوة
  • روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...

    كاتب نجم جديد



“أنت واكل أبوك”. يقولها صديقي بإعجاب..

مقولته تلك ذكرتني ما كانت تردده أمي لي دائماً: “أنت أبو أبوك”..

وهي مقولة قريبة مما قاله صديقي.. وواقعية كذلك.. ولا أعرف كيف تبدلت الأحوال وانقلبت لأصبح أب لأبي..

من الطبيعي أن يحث الأب ابنه على التعليم، وأن يحاول أن يدفعه نحو مستقبل أفضل.. ومن أجل ذلك يكدح الآباء في أعمالهم… وهو بمثابة الصنم الحي الأول في حياة الإنسان حيث بابا .. القدوة والمثال..

غير أن أبي غير باقي الآباء.. لم يكن أبداً دافعاً نحو النجاح، ولم يكن يرغب في أن أحصل على مستقبل أفضل.. بالعكس، كثيرا ما كان يتضايق مني أثناء مذاكرة دروسي، وأذكر في مرة أنه جمع الكتب المدرسية وغير المدرسية وحرقها بمدخل البيت.

كان مؤمناً بأن التعليم مضيعة للوقت، وأنه يجب عليّ أن أترك هذه التفاهات كي أنتبه للعمل بـ النقاشة حتي أصبح مثل ابن صديقه.. أسطي نقاش أد الدنيا.

في الوقت نفسه، كان أبي يرفض العمل، ويتحجج حين يعرض عليه أحدهم وظيفة.. فـ يسرد قائمة طويلة من الأعذار غير المقنعة…

فـ كان عليّ أنا أعمل في الإجازات المدرسية…. من منادي سيارات، لـ قهوجي، لبائع متجول، لـ عامل، لمندوب مبيعات.. والقائمة تطول..

كان أبي بالنسبة لي قدوة. قدوة أن لا أكون مثله، وهو التعلم بالسلب.. أو كما قال نجيب محفوظ يوماً: “الأشرار معلمون صادقون وقساة”..

هذه هي الحقيقة التي اكتشفتها مع أبي. لم يكن شريراً أو قاسياً ولكن قناعاته بالحياة أدت إلى نفوره من التعليم والعمل..

أعتقد أنه الصنم الأول في حياتي الذي أكلته، وهضمته كذلك..

حين تغييب القدوة في البيت، نبحث عنها في المدرسة.. المدرس/ المُعلم… تلك الشخصية الجبارة، التي نخشها ونتعلم منها لتصبح قدوة هي الأخرى.. لا، بل صنم جديد نري فيه اكتمال الإله.

في الصف الأول الإعدادي.. كتبت أول قصة لي، كانت بعنوان “فينوس” وكان تدور حول شاب يدرس بكلية الفنون التطبيقية، وأثناء ذاهبه للكلية يصادف فتاة، يراها يوميا، ويتعلق بها، فـ ينحت لها تمثالا من الرخام.. مع الوقت يتعرف على الفتاة تدريجياً، وكلما اقترب منها أكثر أصابت التمثال بعض الشوائب، وتتوطد العلاقة حتي ينهار الشاب وينهار تمثاله تماماً.. إنه صنم آخر يتحطم..

وقتها عرض القصة على مدرس اللغة العربية، والذي كنتُ أعتبره علامة في مادته، أسطورة في اللغة العربية. غير أن ردة فعله صدمتني..

“أنا مش فاهم حاجة”..

تلك المقولة حطمته كصنم وكقدوة، خاصة بعد نصيحته لي بترك كتابة القصة والاهتمام بالنحو – الذي أعاني من قواعده حتي اليوم- والصرف والمنهج الدراسي..

المنهج الدراسي نفسه لم يكن يعني لي شيئاً.. خاصة من اكتشاف مكتبة الأسرة والقراءة الحرة.. تلك القراءات التي عرفتني على مبدعين بلا حصر، نماذج من البشر استطاعوا أن يتميزوا بفنونهم وعقلياتهم..

في الجامعة ظهرت أصنام جُدد.. هذه المرة متعلقة بنظريات: شيوعية، ماركسية، عدمية، وجودية.. مذاهب سياسية واجتماعية يعتنقها الأصدقاء كدين حقيقي وفعلي..

إقرأ أيضا
الرئيس الأمريكي

اختار كل صديق المذهب الذي يناسب أفكاره، تعصب له، وعمل على سيادته، وتحقيق أهدافه على أرض الواقع..

أصنام هذه المرة فلاسفة، وهي تقع ضمن دراستي الرئيسية. لهذا كنتُ على علم بحياة هؤلاء الفلاسفة.. أجل كتب نتشه عن الإنسان الجديد أو الإنسان الخارق. غير أنه في حياته كان يعاني من الضعف والجنون والأمراض النفسية والعضوية.. فأين هي القوة الخارقة إذن؟

كارل ماركس
كارل ماركس

ماركس نفسه لم يكن ماركسياً أصلاً.. وكذلك باقي الإخوة.. وهذا طبيعي جداً، فـ مؤسس الفلسفة نفسه سقراط استطاع أن يقنع العالم بفلسفته ولم يستطع أن يقنع زوجته زانبثي.. وعاش فقرا عاطلاً، ثم منبوذا مسموماً. ورغم ذلك بقيت فلسفته عمود رئيسي للمعرفة الإنسانية، وأصبح هو نفسه صنم جديد. ربما نجد من يتعبد به كـ بوذا وكونفوشيوس..

لهذا لم يكن الفلاسفة بالنسبة لي أصنام تستحق العبادة ولا حتي الإعجاب.. وهذا لا يعني عدم الاهتمام والشغف واكتساب المعرفة من علومهم وفلسفتهم.. ولكن، بمنطق “كل إنسان يؤخذ عليه ويرد”..

أتذكر الأن واقعة عمر بن الخطاب، حين كان يعكف على صناعة أصنام من العجوة، وإذا جاع أكلها..

أعتقد أن فعلته تلك خير دليل على رمزية الصنم، الذي نهبه القداسة فنتعبد به. أو ننزعها منه ليصبح وجبة شهية.. تلك الوجبة التي لا بد لها أن تثمر عن صنم جديد يتعبد به غيره أو يأكلها ليثمر بدوره..

 

الكاتب

  • أكلنا أصنامنا عمرو عاشور

    روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان