كيف تبعدنا المصطلحات المعقدة عن المعرفة؟
-
حسن صابر
باحث أنثروبولوجي ومتخصص في الشئون الأفريقية
إن احتكار المعرفة وتغريبها، أي تقديمها بأغرب شكل ممكن، من مفردات وتعبيرات ومصطلحات غير صالحة للهضم، يجعلها غريبة على النفس غير مستساغة، فغالبًا ما تمر تلك المعلومات غير المفهومة الواردة في النص على الفرد فيُدخلها ضمن إطار الحذف والاستبعاد[i] وغيرها من العمليات، مهما بلغت أهمية العنوان.
في مقالة بعنوان “السياسة واللغة الانجليزية” ينتقد الكاتب الإنجليزي “جورج أورويل”[ii] (1903 – 1950)، استخدام اللغة المعقدة في الخطاب لتضليل الناس وحجب الحقيقة وإعطاء انطباع بالتفوق الثقافي، هذا التفوق الذي هو في حقيقته المبتغى والهدف لبعض العاملين بالحقل المعرفي[iii].
أثر التعقيد اللغوي على متلقي المعرفة
النص غير المهضوم يتحدث إلى العقل قائلًا “قد اتهمتك توي بالغباء فإما أن تحذفني أو اِستمر في هذا الشعور“، فيقوم عقل الفرد آليًا بالحذف.. فلا أحد يا صديقي يحب أن يرى نفسه غبيًا.
فإما أن يسقط الفرد في تبعية هذا الكاتب المثقف غير المفهوم ويبدو من كلامه الذكاء، أو يبتعد عن هذا الوسط الثقافي المعقد، وفي الحالتين لا يكرر التجربة، تجربة المعرفة.
يرى الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” (1926 – 1984) أن الخطاب[iv] المعقد هو وسيلة للتحكم في المعرفة وإقصاء للآخر عبر التضليل فيقول في كتابه نظام الخطاب: “الخطاب ليس وسيلة لنقل الأفكار بل هو أداة للسيطرة والتفوق، حيث يتم استخدامه لإقصاء بعض الفئات، وجعل المعرفة مقتصرة على نخب معينة“.
وهذا الاستخدام للخطاب الغير مفهوم يمكن أن يوسع هوة التجاذب بين العلم والجهل، حيث أنه يقرّب المريد من اليأس فيُلقي ما تبقى له من إرادة للترقي والفهم، وللمزيد يمكنك الإطلاع على مقال: المجتمعات المتجاذبة بين العلم والشعوذة.
ويؤكد على تلك الفكرة عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو” (1930 – 2002) في كتابه “الهيمنة الذكورية“؛ إذ يتبنى رؤية أن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل بل هي أيضًا أداة للسُلطة، وتستخدم للحفاظ على الهيمنة الاجتماعية.
حاجة اللغة الأكاديمية إلى إعادة تقديم نفسها
لا أنكر أن هناك حاجة إلى لغة أكاديمية رصينة، لغة تحدد أفكارها ألفاظها، تبحث عن التعبير الأكثر مباشرةً وتحديدًا وملائمة للفكرة العلمية وإن لم تجدُه تستحدِثُه، تنتقي الألفاظ ثم تسعى نحو توجيه اللفظ إلى معنًى محدد ثم التأكيد عليه ومن ثم توحيده على كافة ألسنة الباحثين والكُتّاب.
هذه العملية من الانتقاء والتحديد مع ما بها من أهمية، قد شكّلت ما أسماه الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918 – 1990) “المثقفون العضويون” وهم الذين يتم استخدامهم من قبل المؤسسات التي تحكم الثقافة[v]، لإبعاد الناس عن المعرفة، واحتكار تلك المعرفة عن طريق جعلها معقدة وغير مفهومة، ليصبحوا هم ذاتهم النخبة والمصدر الوحيد للأفكار.
وهنا يمكن أن نمد الخط على استقامته ونقول إنها إرادة مشتركة بين تلك المؤسسات التي تسعى لاحتكار أدوات المعرفة، وهؤلاء الأفراد الذين يشكلون طبقة ثقافية واجتماعية تحافظ على نفسها عن طريق صناعة الهالة، هالة فهم غير المفهوم وعِلم غير المُدرَك من الأمور.
يقول الفيلسوف الأمريكي المعاصر “نعوم تشومسكي”: “إذا لم تتمكن من إقناعهم بالحقائق، فقم بإرباكهم بالكلمات“.
محاولة للوصول إلى حل
كلنا يعلم أن مصطلحًا واحدًا غير واضح أو ذو معانٍ متعددة أو تم استخدامه بمعنى غير المتعارف عليه، يمكنه أن يهدم فهم النص كاملًا أو أن يختلف المفهوم من النص في عقل القارئ عن المقصود منه في عقل الكاتب.
لذا اقترح أن نضع في كل مقال أكاديمي منشور وبعد كل فصل في كتاب قاموسًا للمصطلحات؛ يحدد معنى المصطلح أو المقصود منه في ذهن الكاتب.
فهذا يعطي القارئ أداة تُدخله بيسر إلى عالم النص، حيث الفهم يعطينا تلك الحرية، وتُصبح فرصة سانحة لفكرة الكاتب للدخول إلى عالم أفكار المتلقي كونها أصبحت سلسة ومفهومة.
ويُعطي الكاتب أيضًا فرصة للتعبير عن رؤيته للمصطلحات وبالتالي قدرته على ايصال أفكاره كما ينبغي.
ويعطينا نحن فرصة لتقييم النصوص بدلًا من الغرق في تحليل الألفاظ والمصطلحات والمقصود منها، فأن تعرف اللفظ لغة وتاريخًا هذا أمر، وأن تفهم المقصود من اللفظ داخل النص أمرٌ آخر.
لأنه يا عزيزي.. وصدقني في هذا، إن كثيرًا من المصطلحات الثقافوية[vi] المتداولة إما لا يفهمها قائلها أو يفهمها بوعيه الذاتي.
لذا أرى أن هذا الاقتراح (قاموس المصطلحات) يجب أن يُعمم على كافة المقالات الأكاديمية أو المكتوبة بلُغة أكاديمية أو بصبغة نخبوية، حتى نفكك تلك المعضلة الثقافية التي أطّرت المثقف في صورة الفرد غير المفهوم، ووضعت الباحثين عن المعرفة إما في صفوف المريدين غير العاقلين، أو المُحجمين اليائسين من طلب المعرفة، هذا الطلب المتكرر غير المُلبى، إلا في سياقات نخبوية[vii] محددة ومنتقاة أو مدفوعة الأجر.
في النهاية
لابد وأن ندرك جميعًا أهمية إيضاح المعروض من المعرفة، وأن للقارئ حق؛ حق الوقت الذي أعطاه للنص، ولابد على الكاتب أن يشرح له ويسهل عليه ويعطيه مما ينفعه ويهضمه، أما الذي يُقَعِّر الكلام ويجعله أقرب إلى الأحجيات (الألغاز) النصية، فإن كانت إرادته أن يجعل القارئ يتحير ولا يفهم ويتوه في الألفاظ ومعانيها في النص، فإنه بذلك قد ضيع هذه الأمانة. وإن لم تكن تلك إرادته واضطر إلى المصطلحات غير المفهومة اضطرارًا.. فأدعوه إلى النظر في فكرة (قاموس المصطلحات)، في كل ما يكتبه، لعله يفيد بما يكتبه فردًا واحدًا، وفي الدعوة للمعرفة، فردًا واحدًا يكفي.
دليل المصطلحات (حسب ما يقصد الكاتب)
[i] ) الحذف والاستبعاد: عمليات يلجأ لها العقل لتثبيت ما يفيد من المعلومات وحفظها في الذاكرة وحذف ما لا يفيد (هناك عمليات أخرى كالتعديل والاضافة وغيرها).
[ii] ) جورج أورويل هو اسم مستعار اشتهر به كاتب وصحفي بريطاني اسمه الحقيقي إريك آرثر بلير.
[iii] ) الحقل المعرفي: مجموعة من معارف ومفاهيم ومناهج يتشارك فيها الباحثون ضمن تخصص معين لفهم ودراسة موضوع محدد.
[iv] ) الخطاب: مجمل الحديث الموجه لخدمة فكرة معينة.
[v] ) المؤسسات التي تحكم الثقافة: المؤسسات الرسمية وغير الرسمية (التعليمية-الاعلامية-الثقافية) التي تحافظ على سيطرتها للمجال العام عن طريق صناعة وإبراز أو تغييب النخبة.
[vi] ) المصطلحات الثقافوية: هي المصطلحات التي تستخدم لتبرير التفوق الثقافي أو لتعزيز الهيمنة على نفسية المتلقى.
[vii] ) السياقات النخبوية: البيئات التي تتوفر فيها المعرفة لنُخب مختارة، كالمؤسسات التعليمية باهظة الثمن أو التجمعات الثقافية المغلقة، وتوضع التكلفة العالية للكتب المهمة ضمن صناعة تلك السياقات.
الكاتب
-
حسن صابر
باحث أنثروبولوجي ومتخصص في الشئون الأفريقية