كيف غيرتها هجمات حلب؟.. عن صراع القوى في شمال غرب سورية
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
لأول مرة منذ أكثر من أربع سنوات، شهدت خرائط السيطرة في شمال غرب سورية تغييرات حاسمة نتيجة التحركات العسكرية في الأخيرة.
التحركات العسكرية في شمال غرب سورية ضربة لتوازن القوى
تلك التحركات ليست مجرد تحركات ميدانية عابرة، بل ضربة قوية أصابت توازن القوى في مناطق حدود التماس بين أطراف سورية محلية تتنازع النفوذ هناك، بالإضافة لقوى إقليمية ودولية تتشابك مصالحها في تلك البقعة المضطربة من الجغرافيا.
على وقع اشتداد العمليات العسكرية في الشمال السوري، تبدو المنطقة على مرمى حجر من اتساع رقعة المواجهة، حيث تتجه الأنظار نحو الشمال الشرقي، الواقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المدعوم بترسانة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وهذا المشهد المشتعل يرسم لوحة قاتمة، تكتظ بالتوترات وتفصح عن فصل جديد من صراع معقد.
اتفاقات روسيا وتركيا تهدئة أم تأجيل للصراع؟
روسيا وتركيا أبرمتا، في مارس 2020م، اتفاقًا ينص على خفض التصعيد ووقف إطلاق النار في شمال غرب سورية، في محاولة لتهدئة صراعٍ مستمر منذ سنوات، الاتفاق جاء بعد أن استثمرت موسكو دعمها الكامل للحكومة السورية بقيادة “بشار الأسد”، بينما كانت أنقرة الحليف الأكبر للفصائل الإسلامية السُنية المسلحة، هذا التفاهم يُنظر إليه على أنه محطة جديدة في علاقة معقدة بين دولتين لكل منهما أهدافها واستراتيجياتها في سورية.
مدينة حلب، بما فيها مركزها وحدودها الإدارية، لا تزال خارج نطاق الهجوم حتى اللحظة، ذلك نتيجة التفاهمات الروسية – التركية التي جاءت عقب اتفاقية 2020م، وهذه التفاهمات جعلت مركز المدينة -على وجه التحديد- بعيدًا عن دائرة التصعيد، وسط تعقيدات دولية متشابكة.
في المقابل، تشير التوقعات إلى تصاعد حدة العمليات العسكرية خلال الأيام المقبلة، مع تركيز الجهود على طرد “الميليشيات الإيرانية الشيعية” من المنطقة، ومن المتوقع أن تشتعل مناطق واسعة، تبدأ من ريف إدلب الشرقي والجنوبي، مرورًا بريف حلب الغربي والشمالي، لتشهد تلك الجغرافيا مواجهات أعنف في المرحلة المقبلة.
إدلب.. نقطة تحول في الصراع
تخضع مدينة إدلب وأريافها، إضافة إلى مناطق مجاورة في محافظات حلب واللاذقية وحماة، لسيطرة “هيئة تحرير الشام” وفصائل سُنية أخرى ذات نفوذ أقل، ويُطبق منذ 2020م وقف لإطلاق النار بين روسيا وتركيا، بعد عملية عسكرية واسعة شنتها القوات المسلحة السورية بدعم روسي، أفضت إلى استعادة مناطق استراتيجية كانت تحت سيطرة الفصائل المسلحة.
سبب تقدم الفصائل المسلحة واقترابها من المدخل الغربي لمدينة حلب يعود إلى شدة الهجوم وبراعة التحشيد الذي أُعد بعناية فائقة منذ أشهر، حيث تدور المعارك الآن في أطراف حلب الغربية والجنوبية، ومنطقة شرق إدلب وصولًا إلى “معرة النعمان”، وبات الطريق الدولي السريع M5 الذي يربط مدينة حلب بالعاصمة دمشق شمالاً وجنوبًا، في حالة من الشلل التام، لتعود إلى ذاكرة السوريين مشهدًا توقف لعقود بسبب اندلاع الحرب،
الغياب الروسي في معركة حلب هل هو عقاب لإيران؟
ما يعمّق غموض معارك الشمال السوري هو غياب الدعم الروسي الذي يعد ركيزة أساسية للقوات النظامية، حيث تخلّت موسكو عن تقديم الدعم الجوي كعنصر حاسم في المعارك السابقة لصالح القوات المسلحة السورية.
أما موقفها الراهن فيشهد تراجعًا في رغبتها في دعم الميليشيات الإيرانية (الحشد الشعبي، حزب الله) التي تقاتل هناك، وهو موقف يعود إلى أن حلب، بما فيها من مناطق استراتيجية، خرجت تمامًا عن السيطرة الروسية، ولم يعد للروس فيها أي تأثير حقيقي.
لا شك أن هذا التغيّر جاء بعد أن شارك الروس بقوة، بريًا وجويًا، لاستعادة الجزء الشرقي من حلب من قبضة الفصائل المعارضة في منتصف عام 2016م، وغياب روسيا عن المشاركة في معركة حلب الحالية يبدو أنه يمثل عقوبة مضاعفة للميليشيات الإيرانية، في وقت يتداخل فيه هذا الموقف مع ملفات استراتيجية تتعدى حدود سوريا نفسها.
كما يظهر من مقاطع الفيديو والصور التي نشرها نشطاء محليون عبر منصات التواصل الاجتماعي، فإن الهجمات قد وصلت إلى مدخل مدينة حلب الغربي، وتحديدًا بالقرب من حي الحمدانية العريق، وقد اقتربت تلك الهجمات من بلدتَي نبل والزهراء، اللتين تنتميان إلى الطائفة الشيعية، حيث يتمتع “حزب الله” اللبناني، المدعوم من إيران، بحضور عسكري وأمني قوي هناك.
تل رفعت وبلدة نبل .. مؤشرات لتوسع رقعة المعارك في الشمال
بجانب ذلك، تقترب الهجمات من بلدة “تل رفعت” التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” المدعومة أمريكيًا، وهذه التطورات تبعث برسائل تحذيرية، حيث تشير إلى احتمال توسع المعارك لتطال كامل الريف الشمالي لمحافظة حلب، ثاني أكبر المدن السورية.
وتعيش قوات “قسد”، حليف واشنطن في معركتها ضد التنظيمات الإرهابية، هواجس عميقة من احتمال حصول تركيا على مقايضة استراتيجية من روسيا، تشمل بلدة “تل رفعت” مقابل الضغط على “هيئة تحرير الشام” وفصائل “رد العدوان”؛ لوقف تصعيدهم، في معادلة سياسية عسيرة توازن بين المصالح والتوازنات الإقليمية.
فعلى الرغم من أن الهجوم السريع الذي شنته الحركات المسلحة السُنية على القوات الرسمية وما أسفر عنه من خسائر فادحة، يُوحي بانتزاع نصر لصالح الحركات المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، إلا أن الواقع يشير لاستبعاد سقوط “حلب”.
ففي ظل التدخلات الأجنبية، من غير المحتمل أن يُسمح بذلك؛ فروسيا، التي تحرص على بقاء نفوذها في المنطقة، لن تسمح بسقوط المدينة، بينما الإيرانيون، المثقلون بأعباء صراعهم مع إسرائيل، لن يتركا المدينة تُسقط بيد الحركات السُنية المسلحة ثانيًا.
تُظهر المعطيات الميدانية لمعركة حلب أن الحدود، التي ستُحدّدها المرحلة المقبلة، ستكون مختلفة عن سابقاتها؛ وذلك بعد اتفاق سوتشي 2020 بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، فمنذ توقيع الاتفاق، مضت أربع سنوات دون حدوث أي تغيير ملموس في حدود السيطرة بين الأطراف السورية المتنازعة والقوى الدولية والإقليمية المؤثرة، بما في ذلك الفصائل المدعومة من تركيا في شمال سورية، وقوات “قسد” التي يقودها الكُرد في الشمال الشرقي للبلاد.
فيما يتعلق بالموقف الإيراني ودور مليشياته، فإن العمليات العسكرية التي وصلت إلى بلديتي “النبل” و”الزهراء” تضع إيران أمام تحدٍ صعب، حيث يواجه عناصرها تهديدات متواصلة من الطيران الإسرائيلي. ورغم أن الخيارات الدفاعية محدودة في ظل هذا الوضع، إلا أن التوقعات تشير إلى أن “حزب الله” سيظهر بشكل أكثر حسمًا واندفاعًا بمجرد أن يقترب الخطر من معاقل الشيعة السوريين في “النبل” و”الزهراء”، التي تعتبران من أبرز معاقلهم في المنطقة.
الخطر القادم في سوريا بعد هجمات حلب
ختاما
هناك تحذير من انزلاق المعركة إلى طابع مذهبي، مع الإشارة إلى أن الهدنة في لبنان، التي دخلت حيز التنفيذ، ستمكّن “حزب الله” من إعادة ترتيب صفوفه والتحرك بحرية أكبر بدعم إيراني متزايد، ويبدو أن الحزب يعتزم تحويل ما يعتبره انتصارًا في لبنان إلى فرصة لتأكيد حضوره مجددًا في سورية.
على صعيد آخر، قد تكون الهجمات العسكرية التي شنّها “هيئة تحرير الشام” بمثابة محاولة لإعادة تموضع جغرافي في أرياف حلب وحماة وإدلب غربي سورية، وفيما يخص الروس، سيكون لهم الدور الحاسم في تحديد مسار الأحداث؛ فبالنسبة لهم، يمثل سقوط حلب ضربة كبيرة بعد الانتصارات المدوية التي حققوها في الأسابيع الماضية في “الدونباس” الأوكراني وفي منطقة “كورسك” الروسية.
فـ “حلب”، تلك المدينة الشامخة في شمال غرب سورية، أكبر من أن تحيط بها قدرات الحركات المسلحة مجتمعة أو “هيئة تحرير الشام” منفردة، بل هي أكبر من قدرة تركيا نفسها على التحكم بمسار الأحداث، وإذا ما أخذنا في الحسبان أن الهجوم خرج عن إطار التخطيط التركي أو جرى السماح له بالمرور دون تدخل، فإننا أمام مشهد قد يواجه فيه الأتراك تشددًا غير مسبوق، ذلك أن سقوط حلب سيجلب غضبًا روسيًا شديدًا، ما قد يفتح أمام المنطقة أفقًا من التوترات التي لا حصر لها.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال