أخوات على الشاشة…كيف قدمت الشاشة نساء الإسلام السياسي
-
هند الأشعل
هند الأشعل كاتبة وإعلامية وتشكيلية، صدر لها ديوان وروايتين وتقدم حاليا برنامجها الخاص على يوتيوب (كنبة هند)، وهو برنامج نسوي يحلل الأعمال السينمائية والدرامية والأدبية من منظور نسوي.
في مراهقتي كنت أسمع دومًا في محيط الأسرة وأصدقائها – لتأثر بعضهم بظاهرة الصحوة الإسلامية الأصولية، التي هيمنت أفكارها عليهم وعلى أغلب المصريين في فترة أواخر التسعينيات وأوائل الألفينيات نقدًا حادًا تجاه الفنان الكبير “عادل إمام” وصل حد التكفير، لا لشئ سوى لتقديمه صورة الإرهابي أو الأصولي المتشدد المنتمي لجماعات الإسلام السياسي عبر أفلامه وخاصة الساخر منها.
الوصم نفسه تكرر توجيهه للفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير الراحل مصطفى حسين “1935 – 2014” والذي كان يرسم كاريكاتيره الشهير في في الصفحة الأخيرة من جريدة أخبار اليوم.. حيث تعرض للتكفير أيضًا، لسخريته من جماعات الإسلام السياسي وممارستها العنيفة، ولرسمه النساء بحرية كبيرة وجمال أكبر. كانت من عادات أسرتي التي اكتسبتها بالمشاهدة؛ هي استهلال قراءة “الجورنال” من آخر صفحة والاطلاع أولًا على كاريكاتير الصفحة الأخيرة.
نقد الإرهاب يقع في فخ الذكورية!
كان المحيط الأصولي حولي في تلك الفترة يحتقر الفن بكافة أشكاله.
الشاهد هنا أن أغلب الأعمال الفنية التي تناولت بالشرح والتشريح والنقد ظاهرة الإرهاب عجزت في بعض مواضعها عن تجاوز ذكورية المجتمع؛ حيث ظلت صورة (الأخ والأخوة) من الرجال تتصدر الشاشة آنذاك، بينما كان دور النساء في الأعمال الدرامية ثانويًا وهامشيًا؛ بدءًا بتصدُر الفنان عادل إمام أعماله السينمائية كفيلمي “الإرهابي”1994 و”طيور الظلام” 1995 كبطل ذكر أوحد، مرورًا بما حوته تلك الفترة من أعمال درامية عدة انتقدت ظواهر الأصولية والإرهاب والعنف، وصولا لتجلي المفارقة الصارخة ومصيدتها، حيث انطوت تلك الأعمال -في نفس الوقت- على قدر هائل من تعزيز الذكورية عبر تهميش الأدوار النسائية الحيوية على الشاشة حتى بدايات الألفينيات.
أفواه ونساء
تفاقمت ظاهرة الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عنيف ودموي عقب غزو العراق في 2003 واندلاع ما عُرِف بـ”الربيع العربي” بعد 2010، ومع هروب بعض الناجين والناجيات من براثن الموت في مناطق النزاع المسلح الواقعة تحت سيطرة الجماعات التكفيرية المسلحة، كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف بـ”داعش”.
عقب سقوط تلك التنظيمات والعصابات المسلحة، وعلى رأسها “داعش” في 2019، توالى ظهور “شهادات حية” لنساء تحكي ما شهدنه من أهوال دامية تحت حكم تلك الميليشيات؛ كشهادات بنات الطائفة الأيزيدية على إجرام داعش بحقهن.
سرعان ما استلهمت الأعمال الدرامية تلك الشهادات وأفردت مساحات كبيرة لتجسيد معاناة الشخصيات النسائية تحت ظل “داعش” على الشاشة، في أعمال فنية عديدة “غرابيب سود” 2017 “بطلوع الروح” 2022.
تجدر الإشارة إلى أنه سبق مرحلة “الشهادات الحية” إنتاج عدد قليل من المحاولات الناقدة في بعض الأعمال الدرامية والسينمائية والتي تناولت الأفكار التكفيرية بشكل ساخر وكاريكاتوري.
الأباجورة دي حرام!
فيلم “الثلاثة يشتغلونها”، الذي عُرض في يونيو 2010، من تأليف “يوسف معاطي” وإخراج “علي إدريس” ومن بطولة ياسمين عبدالعزيز وصلاح عبد الله وهالة فاخر وكوكبة من الفنانين، مثال بارز على نمط تلك الأفلام التي انتقدت بشكل ساخر انغماس بعض النساء وسقوطهن في فخ الجماعات الأصولية وتبني نهجهن دون تفكير أو إعمال لعقل نقدي في تعاليمهم؛ حيث نرى في الفيلم شخصيته الرئيسية “نجيبة” الفتاة المنتمية إلى شريحة اجتماعية فقيرة نسبيًا، وأسرة منغلقة فكريًا إلى حد ما، لكنها ترى أن التعليم هو الملاذ الوحيد لإبنتهم “نجيبة” المتميزة “دراسيًا” حتى تترقى اجتماعيًا، حيث تلتحق بكلية الآثار بمجموع 101% في الثانوية العامة.
“نجيبة” رغم تميزها الدراسي/ التعليمي/ التلقيني إلا أنها تعاني من افتقار لأدنى درجات العقل النقدي والوعي الاجتماعي والمعرفي، حيث نشهد تنقلها عبر مشاهد الفيلم؛ ما بين الشاب الغني المستغُل والمُتدين الأصولي المزيف واليساري النصاب، حيث اتفق الثلاثة على استغلالها بدرجات وطُرق مختلفة.
لكن أبرز مشهد، في تقديري الشخصي، يجسد نقد ممارسات التكفير، هو مشهد تُمثل فيه ياسمين عبدالعزيز أو “نجيبة” شخصية فتاة أصولية متطرفة فتدخل على أبيها وأمها وهي تُحرم كل شئ، زاعقة في وجوههم “الأباجورة دي حرام”؛ سخرية لاذعة بملابس سوداء تشابه كثيرًا مع إيماءات طريفة للداعية الإسلامية المصرية الشهيرة آنذاك “ملكة زرار”.
ما جذبني لتأمل هذا المشهد الذي يبدو ساخرًا، هو أنه سبق وحدث شيء مشابه ﻷحد أصدقائي، حيث كانت والدته التي تعشق وتقتني مجموعة من الأنتيكات والتماثيل ومن بينها أباجورة تحوي تمثال امرأة عارية اشترته في سبعينيات القرن الماضي، ولكن ما أن مسها ضُر الأصولية التكفيرية في منتصف التسعينيات، حتى قررت تغطية النساء العاريات بقطع (الفويل) أو الألومنيوم امتثالًا لفتوى حرمانية التماثيل عامةً والعاريات خاصةً.
زينب الغزالي ووحيد حامد
عام 2010 كتب الراحل وحيد حامد (1944-2021) وأخرج محمد ياسين مسلسل “الجماعة”، وتناولا فيه صعود جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وإجرامها على يد مؤسسها “حسن البنا” (1906-1949).
وبعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في 2013 في مصر، أصدر “حامد”جزءًا ثانٍ من المسلسل تحت عنوان “الجماعة 2” إخراج شريف البنداري، عُرض في 2017، حيث قدم “حامد” واحدة من أهم شخصيات الجماعات الأصولية النسائية “زينب الغزالي” (1917 – 2005) التي أسست جمعية للسيدات المسلمات لنشر الدعوة الإسلامية، سنة 1937، واقترح عليها “حسن البنا” ضم جمعيتها للجماعة.. بعد نجاح جمعيتها في استقطاب نخبة المجتمع من السيدات.
شخصية زينب الغزالي جسدتها الفنانة المصرية “صابرين” ببراعة كبيرة، وعكس أدائها محاولة حقيقية منها لتجسيد الشخصية بشكل محترف، إلا أن وهنًا أصاب كتابة الشخصية على الورق فظهرت بشكل مبتور لأسباب حرفية ربما تتعلق بالكتابة وربما بالإخراج أو بكليهما.
في نفس العام 2017 وبإنتاج ضخم عُرض مسلسل “غرابيب سود”، والذي يعرض حياة المعسكرات في تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق؛ ما بين “جهاد النكاح” والرق واغتصاب الأطفال وتجارة الأعضاء البشرية فضلًا عن التعذيب والقتل باسم الدين.
وهو مسلسل مقتبس عن قصص وشهادات حقيقية؛ حيث أظهر المسلسل جحيم حياة النساء في تنظيم الدولة الإسلامية واستغلالهن، المسلسل لاقى صعوبات عند عرضه حيث عُرض منه 20 حلقة فقط بعد أن كان مقررًا أن يكون 38 حلقة، وهو ما أثر على سرد الأحداث. إلا أنه نجح نجاحًا كبيرًا رغم الانتقادات الكبيرة التي طالته بسبب اختيار الاسم “غرابيب سود” لكونها لفظة قرآنية، إلا أن صدق ووحشية الأحداث والدور النسائي البارز بشكل كبير كان له أثر بالغ في تعاطف الجمهور مع للمسلسل.
مسلسل غرابيب سود
نساء داعش وقلم عُبية
أيضًا نجح المؤلف محمد هشام عبية في تقديم بطولة نسائية أولى وثانية ورسم شخصيات ثانوية شديدة الحساسية والرهافة في مسلسله “بطلوع الروح” 2022، من إخراج كاملة أبو ذكري، بطولة منة شلبي ومحمد حاتم وأحمد صلاح السعدني وإلهام شاهين.
جسدت (منة شلبي) دور امرأة خُدعت على يد زوجها الداعشي “أكرم”، الذي استدرجها لمصيدة “تنظيم الدولة” في سوريا تحت إكراه خطفه لابنهما ذو السِت سنوات.. والمريض بمرض نادر.
وعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة التي لاقتها الفنانة منة شلبي بسبب مشهد خلعها الحجاب والتخلص منه في آخر المسلسل، إلا أن هذا لم يمنع المسلسل من مَس شغاف قلوب المُتفرجين، إذ شكل المسلسل صدمة نفسية كبيرة للمتفرجين، خاصة أن الشخصيات النسائية كُتبت بحرفية ومساحة كبيرة.
الفنانة “إلهام شاهين” كالعادة كان لها النصيب الأكبر من تلقي النقد اللاذع الصادر عن جمهور الأصوليين، خاصة أنها مثلت دورًا مركبًا “أم جهاد” وهي قيادية في “تنظيم الدولة” بالتحديد في “لواء الخنساء”؛ والمسؤولة عن النساء في المناطق المُسيطر عليها من قِبَل التنظيم.
“أم جهاد” التي لم تحظى بطفل من زوجها القيادي في التنظيم، تفننت في تحويل حياة النساء إلى جحيم، عبر تعذيبهن نفسيًا وجسديًا وقتلهن وإجبارهن على الجنس.. كُنَ قاصرات أو راشدات، في تقديري لَعِبت مشاهد الجَلْد التي جسدتها “إلهام شاهين” دور كبير في نجاح المسلسل.
كما أن مشهد محاولتها إغراء “عُمر” القيادي في التنظيم – بعد مقتل زوجها القيادي- وهو يصغرها بسنوات كثيرة (قدم شخصية عمر الفنان أحمد السعدني)، وتحولها من امرأة شديدة الشراسة لامرأة تستخدم أساليب الغواية للإيقاع بشاب يافع؛ كان هذا المشهد من أكثر المشاهد التي لم تعتدها الدراما المصرية والناطقة بالعربية. لتقدم الشخصية النسائية المؤدلجة بأيدولوجية الإسلام السياسي بتناقضاتها الحية.
أيضًا نجحت الفنانة دارينا الجندي في تجسيد دور امرأة أغلق التنظيم صالونها النسائي، وحرم عليها تجميل النساء وشن حملات تفتيش على البيوت ومن ضمنها بيتها، للتأكد من خلوها من “الحرام”، برهافة شديدة تذكر “دارينا” على لسان الشخصية جحيم الحياة وكيف أنها في بداية تلك الحياة البائسة فقدت شيئًا فشيئًا الإحساس بحواسها فصارت لا تستشعر الألوان ولا الموسيقى ولا أي شئ حتى فقدت شعورها بجسدها وكيف أن تزينها وتزيين النساء خلسة أعاد لها الشعور بالحياة مرة أخرى.
!الأباجورة فتنة
على مدار التسعينيات ومطلع الألفية غابت عن الشاشة العديد من مشاهد المعاناة الحية والجرائم والتعدي التي اشتهر بارتكابها في حق النساء المنتمين فكريًا والمؤدلجين بأيديولوجيا الإسلام السياسي، كالسلفيين والإخوان المسلمين؛ فعلى سبيل المثال مشاهد الاعتداء بقص الشعر غير المحجبات في المواصلات العامة، وجمل الابتزاز من عينة “إنتي أمورة قوي يا حبيبتي هتبقى أحلى كتير بالحجاب” التي كانت تلقيها النساء الأصوليات على الفتيات اللائي يعرفهن واللائي لا يعرفهن بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو الخطاب الأصولي الذكوري الذي نجم عنه انتشار التحرش كعدوان دائم ضد نساء مصر، ﻷنه خطاب يبرر التحرش بالفتيات بوصم ملابسهن بـ”الإثارة” و”الفتنة” بدعوى أنها” بالتأكيد السبب في “إثارة” المتحرشين الذين اعتاد الأصوليين بتسميتهم بالشباب “البرئ” تارة و”الغيور” تارة أخرى!!
ذكريات روميو في مدرسة البنات الأصولية
يحضرني لحظة كتابتي المقال ذكرى شخصية، لجارة من أبناء الصف الثاني لجماعة الإخوان المسلمين (أكبر جماعات الإسلام السياسي)، كانت صديقتي هذه في مدرسة إسلامية للفتيات وبسبب قصر شعرها -حيث أن المدرسة كلها فتيات فقط حتى العاملات فيهاـ كانت ستمثل، في مسرحية مدرسية، دور روميو في رواية “روميو وجولييت” لشكسبير – وهو شئ في حد ذاته غريبًا جدًا- إذ كان التيار العام المحيط بنا آنذاك يحرم الفن بأكمله، المهم أن الحوار بيننا كان عن سؤالي لها: “كيف ستقبّلين جولييت كروميو في المسرحية؟”.
وأتذكر ضاحكة الآن المشهد تم تجسيده بقبلة بعيدة في الهواء درءا للفتنة والشبهات بالطبع.
اقرأ أيضًا
حبة البازلاء الجالبة للمحبة
الكاتب
-
هند الأشعل
هند الأشعل كاتبة وإعلامية وتشكيلية، صدر لها ديوان وروايتين وتقدم حاليا برنامجها الخاص على يوتيوب (كنبة هند)، وهو برنامج نسوي يحلل الأعمال السينمائية والدرامية والأدبية من منظور نسوي.