
لام شمسية.. دراما البوح وكسر الصمت بين الفنيات والجدل

-
منار خالد
ناقدة سينمائية مصرية
ربما تأخرت كثيرًا في الكتابة عن مسلسل “لام شمسية” تأليف ورشة سرد “مريم نعوم“، إنتاج “سعدي- جوهر” وإخراج كريم الشناوي، ضمن الموسم الرمضاني في نصفه الثاني، حيث الشعور بأني ربما لم آتِ بجديد. انتابني هذا الشعور بسبب كثرة التحليلات المتداولة على مواقع التواصل، من قِبل الجمهور، وحالة الحراك والجدل التي أثارها المسلسل، والتي أثمرت عن شقين هامين، الأول منهما حالة البوح التي طالت الكثير في الكشف عن أسرار شخصية متعلقة بـ”التحرش”، حيث الشعور ذاته بالفاجعة يتكرر ليعيد استدعاء الكثير من الألم، الذي تبدأ أولى مراحل التعافي منه بالبوح والمشاركة، والكشف عن كل مستغل ومتحرش. أما الشق الثاني فهو التحليل الدقيق للعمل الفني، بداية من السيناريو وبناء الشخصيات وصولًا إلى تحليل اللقطات والكادرات ودلالات الموتيفات والإكسسوارات المستخدمة في العمل، حتى بات الجمهور يستشعر أحيانًا أنه يفرط في التأويل على استحياء، إذ إن المخرج نفسه ربما لم يقصد مثل تلك الرمزيات التي استغرق فيها المتلقي، وبات يلتقطها ليبلورها ويحلل معناها وفقًا لحالة تلقيه.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التساؤل غير مهم، ولا تعنينا إجابته من قِبل المخرج عما إذا كان قاصدًا شيئًا أم لا، لأنه في النهاية ربما يكون قاصدًا وبشدة، كتأكيد للمعنى، وربما ظهرت منه تفاصيل نتاج تفاعل غير مقصود لكنه محسوس، وربما لم يقصدها ولم يشعر بها مطلقًا، لكن للحالة الفنية دائمًا سحرها الذي من الممكن أن يفاجئ المتلقي والمبدع معًا. كل ذلك لا ينكر أن الحالة الإخراجية هي نفسها التي بنت الحالة الجدلية التحليلية بسبب التركيز على التفاصيل، والسرد المتدرج الذي لم يعتمد في حلقاته الأولى، وبخاصة أول حلقة من العمل، في تعريف شخصياته على المعلومات المُلقاة، بل استخدم أذكى طرق التعريف والجذب، عن طريق جمع كافة الشخصيات في مكان واحد مغلق، ومن ثم خلق مواقف كافية بالتعريف من خلال التعامل والاحتكاك، ثم بنهاية حلقة مشوقة للغاية، نظرًا للحدث المفجر القابل للشك، المرتبك في تصديقه، ومعه هاجس فقدان الحقيقة بسبب المشاجرة وغيبوبة الجاني.
وبالتالي، أسس العمل اتفاقًا ضمنيًا مع المتلقي للتركيز في كافة التفاصيل الخاصة بالصورة والسيناريو والتمثيل، حتى يكون قادرًا على فهم طبيعة الشخصيات وشبكة العلاقات، وكذلك الرموز والدلالات.
أداء تمثيلي لا مفر من الإشادة به

لم أدن بأي شكل ذلك الحراك الجدلي الذي حققه العمل، بل على النقيض، أشكر كل صُنّاع العمل على هذا التأسيس الذي أثمر عن تلك الحالة، حتى وإن تسببت في تأخير الكتابة عن العمل بشكل ما، وفقًا لمتابعة المكتوب بدقة والرغبة الحقيقية في عدم إيقاف تلك الحالة، حيث الإيمان التام بأن الفن لا يقدم رسائل، وهذا ما كنت متحمسة له في المسلسل، ولكن للجدل مكانه وأهميته، والاشتباك أفضل من مليون رسالة توعوية.
وربما سنعود لتلك النقطة مجددًا، بشكل مفصل أكثر، بعد الإشارة المستحقة للأداءات التمثيلية، التي أعتبرها من أفضل أداءات رمضان هذا العام، يأتي في مقدمتها “محمد شاهين” في دور وسام، حيث المرور مع الشخص بالمراحل ذاتها التي عاشها معه باقي شخصيات العمل، ذلك الودود اللطيف الذي ننخدع فيه جميعًا في بداية الحلقة الأولى، ونتخبط في الحكم عليه في الحلقات التي تليها، ثم نستكشفه بالتدريج، وصولًا للوضوح التام الذي نستكشفه كمتفرجين، لكنه لم يتحقق بعد للشخصية نفسها، وفقًا لحالة تصديقه بأنه شخص ضحية ولم يرتكب أي جُرم.

وعن تلك التحولات التي يقدمها في المشهد الواحد، بين قول شيء بالوجه ونقيضه بالصوت وطبقاته، إشادة لم أتطرق إليها كثيرًا، حيث إن منهجي في النقد لم يقم على الإشادة بقدر التحليل، حتى لو كان أداء الممثل قويًا، يبقى خاضعًا للتحليل داخل سياق درامته، بصفتها عملية فنية متكاملة. ولكن مع هذا العمل، سوف أكسر قاعدتي قليلًا لتوجيه تحية للممثلين، لأنه بالفعل أداءٌ لافت، وربما هو العنصر الأهم والأبرز في المسلسل، مع اتفاقنا أنني ربما لم أقدم مقالًا تحليليًا كما يعهدني كثيرون لأن “الجمهور قام بالواجب”، ولكنها بمثابة تعقيبات على الكثير من العناصر.
ثم يأتي الأداء التمثيلي لأحمد السعدني، الذي لا يقل لفتًا للأنظار، نظرًا لمرور الشخصية بنفس المراحل التي يمر بها الجمهور، بل وعند كشف الحقيقة أمام الجمهور، يبقى طارق غير مُصدّق بشكل نهائي، أي متأخرًا في الاكتشاف، ويواجه جمهورًا يعلم الحقائق كاملة. هنا تظهر معضلة حقيقية، حيث وعي الجمهور بالحقيقة يتطلب جهدًا أكبر في الأداء لتبرير عدم التصديق، وفي واقع الأمور، ربما الأداء التمثيلي للسعدني كان مبررًا أقوى مما كُتب في السيناريو.

وعن يسرا اللوزي، التي تجسد مفهوم الصمت بشخصها، ذلك المسكوت عنه في تواطؤ قسري رغمًا عنها، وانفعالاتها المنضبطة في التعبير عن الاكتئاب ومشاعر الخوف والترقب، بعناية وحفاظ متقن على إيقاع رسم شخصيتها، التي من الممكن أن تقع أي ممثلة أخرى في فخ تجسيدها كالبكماء، لكن ظهر الأداء التمثيلي للممثلة متحدثًا وغامضًا عن كل ما تحمله من اضطرابات وتوترات بسلاسة واتزان واضح.

ثم أداء “صفاء الطوخي”، الأم لوسام، التي تحمل شكوكها داخلها، لكنها رافضة ومصدقة براءة الابن، مع صوت من بعيد داخل عقلها ينبهها باحتمالية وجود شيء وعن تلك الازدواجية السلسة في إدانته بعد معرفة الحقيقة ومساندته، وعن دورها كأم وجدة في المنزل الذي وقعت فيه المشكلة، ومديرة مدرسة الطفل الذي تسبب في فضيحة ابنها، ذلك الاختلاط غير الهيّن إطلاقًا في التجسيد، والذي قدمته الطوخي بحرفية ممثلة مخضرمة. وحقيقي، أنا أشعر باستغراب ذاتي لاستخدام مثل تلك المصطلحات الإشادية الواضحة مثل “مخضرمة، ممتازة”، وهكذا، ولكن هذا بحق.

وذلك دون إغفال حرفية الممثلين الصغار علي البيلي وياسمينا العبد، التي لا تقل حرفية وإتقانًا عن الكبار.
قضايا بين التضمين والتوعية
يتناول المسلسل قضية شائكة للغاية وللمرة الأولى نتطرق إليها في الدراما المصرية، على سطح الحكاية قضية “التحرش” وبخاصة “التحرش بالأطفال” رغم أنها تحمل في باطنها الكثير من مفاهيم الاستغلال الجنسي، حتى وأن لم يكن مع الأطفال فقط، وربما هذا هو ما أثار كل ذلك الحراك والشعور بالمشاركة مع الطفل الضحية “يوسف”/ علي البيلي، لكنه في الوقت نفسه يقدم العمل خطوطًا أخرى مثل “مشكلات العلاقة الحميمة -التشنج المهبلي-، الخيانة الزوجية، الأمومة القسرية، أزمة الهوية للمغتربين، التنمر في المدارس، أخطار الألعاب الإلكترونية” منها الكثير متدفق داخل سياق الدراما والمحرك الأساسي للحدث الفعلي، حيث لم يتم إقحام مشاكل الهوية ومشاكل العلاقات والخيانة.

ولكن وقع العمل في فخ التوعوية والرسائل، مع الوضع في الاعتبار السماح بمساحة بسيطة من التوعية التي أرفضها تمامًا داخل سياقات الفن الذي لم يكن هذا دوره مطلقًا، ولكن باعتباره العمل الأولي الذي نأمل أن يفتح أبوابًا أكثر تحررًا من الخطابية والتوعية، فمن الممكن أن يمتلك مساحة بسيطة في سياق درامته، ولكن ربما زادت تلك المساحة في الخط الخاص بالإشارة لخطورة الألعاب الإلكترونية، التي ذُكرت بغير سياق، وكأنها توعية مباشرة للمتلقي وليست لشخصية نيللي/ أمينة خليل، وكذلك مشهد الإفصاح عن عدم الرغبة في الإنجاب لإسيل عمران، الذي رغم أهمية القضية، إلا أنها جاءت على نحو تبرير لضياع هذا الطفل بين سبل متعددة، أدت للتحرش، إضافة لرسم خط الخيانة الزوجية بعناية ودقة درامية، لكنه يتسق مع خط الأمومة القسرية، بسبب إسناد التحرش لذلك التفكك الأسري، مع إغفال شق أهم من ذلك بكثير وهو عدم التوعية الجنسية للأطفال، فإذا أردنا المباشرة أو حتى لو لم نرد ذلك فلابد من الإشارة أن أحد أهم أسباب وقوع جرائم التحرش ترجع إلى عدم التوعية الكافية للأطفال، وذلك بجانب الخط الرئيسي بالعمل والمحرك الأهم للحدث “الطب النفسي”.

الطب النفسي هو الحل!

حيث تقديم كافة الحلول من خلال الطب النفسي، الذي تمثل في رسم درامي مشوّش، بين طبيبة نساء لنيللي تتحول إلى طبيبة نفسية، محاولة معها تذكر حادثة بالماضي أدّت إلى رفض جسدها للعلاقة الحميمة، وطبيب ليوسف استطاع بسرعة كبيرة معالجة الطفل، مع ظهور تخبط في الحلقة ٧ بغلق الكثير من الخطوط للتوجه من الحلقة الثامنة إلى خطوط جديدة، أدت إلى حل الأزمة النفسية للطفل بشكل أسرع، وتضمين خطاب أن الطبيب النفسي هو الحل الأوحد. وربما هذا غير متسق كليًا مع الحقائق المجتمعية لبعض الأسباب التي سنذكرها في علاقة ذلك بالطبقة الاجتماعية.
ولكن قبل أن ننهي الشق النفسي، يجب الإشارة إلى أن وجود الدكتور نبيل القط، الطبيب النفسي بالفعل، جاء على نحو لا يقل تخبطًا، من حيث متابعة حالة شخصية رباب/ “يسرا اللوزي” لفترات طويلة بتدخل كامل من زوجها دون كشف تلاعبه النفسي بها ومساعدتها بشكل فعال، ومن ثم الإدلاء بتحليل لشخصية وسام في جلسته مع زوجة وسام، دون إخضاع وسام بحق لجلسات علاج تمكنه من ذلك، مما أدى إلى إفصاحه عن تشخيص معمم عن كل من يقومون بفعل التحرش بالأطفال، حيث نفيه أن هذه الحالات بصفة عامة لم تكن بالضرورة “بيدوفيليا”، بل هي أقرب إلى تشخيص “اضطراب الولع الجنسي بالأطفال”، وهو اضطراب نفسي يتميز بوجود خيالات أو اندفاعات جنسية لا تُقاوَم تجاه الأطفال، أي تحت سياق “الشره الجنسي، ومدمني الجنس”.

وربما ذلك تقليل من حجم المشكلة المجتمعية الفعلية، وكذلك قصور في التشخيص وتعميم على كافة الحالات، التي ربما تحمل تشخيصًا أبعد عن حالة الهياج الجنسي، وتتوجه إلى إساءة استخدام السلطة، والسيطرة على الطرف الأضعف/ الضحية، سواء أكان طفلًا، كبيرًا أو رضيعًا، أو سيدة، أو حتى حيوانًا، وهو الأقرب إلى “الإساءة الجنسية القهرية”، حيث يستخدم فيه المعتدي سلطاته ونفوذه للهيمنة على الضحية واستغلالها جنسيًا، للشعور بالسلطة والسيطرة والتحكم، وهو الأقرب بالفعل للسادية التي أشار إليها وسام، التي كان يتبعها معه والده.

وذلك بالتأكيد للإشارة إلى أن شخصية المتحرش في العمل وخارج العمل هو مجرم، سواء خضع للتحليل وثبت مرضه أم لا. وأعتقد أن العمل لم يقع في مثل هذا الفخ من التبرير المُمنطق لأفعال المعتدي، ولكن لا بد من رسم كامل لتاريخ الشخصية لأنها بالنهاية شخصية درامية.
ولإنهاء هذا الشق الجدلي، فإن تشخيص المريض دون إخضاعه لجلسات علاج، وإعطاء مصطلح وتفسير موحد، هو إخلال بخط الطب النفسي الذي يستخدمه العمل في تحريك أحداثه، بجانب تحول جلسات الطبيب الذي قدّم دوره علي قاسم إلى جلسات توعوية حقيقية للجمهور بإفراط شديد، رغم الأداء المتقن للغاية للممثل.
طبقة اجتماعية محددة
هنا نستكمل الحديث عن جلسات العلاج في إطار الطبقة الاجتماعية التي يستهدفها العمل، حيث يقدم العمل قضية بشعة في التناول، ولكن كي لا يكون صادمًا للغاية، استهدف طبقة اجتماعية عملت على خلق حالة من فلترة البشاعة الحقيقية لمثل هذه الجرائم، ليقدم طبقة قادرة على الذهاب للطبيب النفسي، في مقابل الكثير من الطبقات التي لم يكن في مقدورها هذا الفعل، بل ومن كان قادرًا على ذلك لم يجد ببساطة شديدة الطبيب المناسب للحالة. وربما ذلك سيسبب صدمة أكبر لكثير من المتلقين عند التوجه لهذا العالم، الذي يحمل مخاوفه هو الآخر، ومن الصعب الوصول المناسب منه إلا إذا كان ينتمي إلى طبقة اجتماعية مشابهة لأبطال العمل.
حيث تقديم الحل بالاتصال بالجهات المعنية والطب النفسي – بعيدًا عن مباشرته – فهو يستهدف طبقة معينة، لم يخل بها دراميًا، ولكن ربما مجتمعيًا لم تتسق كليًا مع القضية المطروحة.
وفي النهاية، تبقى هي أطروحة مفلترة لعدم الصدمة الكبيرة للجمهور، أي طرح هين أثمر عن بواطن لا حصر لها، وحالة بوح إيجابية على كافة مستوياتها، تجعلنا جميعًا على أمل في إنتاج أطروحات مستترة مثل تلك اللام الشمسية، الخفية، زي السر وزي الذنب، المنسوبة للغة العربية نسبة لمهنة المعتدي، والتي – وبالمناسبة وفي الختام – تحمل في اسمها شيئًا من الضوء القادم والحل المطمئن، وكذلك النجوم كأجسام مضيئة أيضًا، والتي نمت عن عدد مرات التحرش وعدد المعتدى عليهم بالعمل، لكنها تؤكد أنها ستتضح وتنكشف، لأنها “بتنور حتى في الضلمة”، على حد قول يس الطفل.
واستخدام عنصر الشمس كمصدر إضاءة في كوابيس نيللي، للربط بين حادثتها في الماضي وحادثة الحاضر، حيث الاتساق بين مسميات الأشياء والصور الذهنية عنها، التي تنم عن كشف الحقائق القادم، واستخدام مصادر إضاءة تتوافق مع تلك المسميات، تشبه ضوء الشمس، وعتمة الليل مع بعض مصادر الإضاءة الخافتة مثل النجوم، واستخدام الإضاءة بوجه عام داخل العمل، بين ظلام على وجه وسام في مقابل إضاءة يوسف، وظلام عيون وسام المستمرة، والغموض الذي تقدمه الإضاءة الخافتة، والكثير والكثير من التفاصيل التي استغرق فيها المتلقي وتمعّن في تحليلها، لأن المسلسل تعامل معها بفنية عالية ساهمت في تحقيق هذه الحالة، التي تضع “لام شمسية” في صدارة قائمة أفضل الأعمال هذا العام، وتضعنا جميعًا في حالة جدل وبوح واشتباك لا ينتهي حتى بعد انتهاء العمل الهام والفارق.
الكاتب
-
منار خالد
ناقدة سينمائية مصرية
ما هو انطباعك؟







