لماذا اعترضت أم كلثوم على ألحان القصبجي؟
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة التاسعة عشر من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجي، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق من الحديث عن بعض زوايا علاقته بكوكب الشرق أم كلثوم حيث التساؤل الذي يفرض نفسه دائما، هل نضوب فكر المرحوم محمد القصبجي كان سببا لإعراض أم كلثوم عن ألحانه أم أن إعراضها عن ألحانه كان سببا لهذا النضوب، وقلنا أن الإجابة عن هذا السؤال قد تكون أمرا صعبا لما في محاولة الإجابة عليه من سعي للدخول إلى نفس كل منهما، ولكنني أرى أن الأمر قد لا يفسر بنضوب الفكر من الأساس، صحيح كان في حياة المرحوم محمد القصبجي فترة خصبة مليئة بالعطاء، وأخرى مجدبة جافة هي التي وصفت بالنضوب، إلا أنني أرى أن تلك الفترة ومع قلة نتاج المرحوم محمد القصبجي فيها لم تخرج عن كونها فترة عطاء من نوع آخر، فالمرحوم محمد القصبجي ظل عازفا للعود بفرقة أم كلثوم في تلك السنوات، كذلك ظل ملحنا لغيرها من المطربين والمطربات، لذلك ليس من الإنصاف أن يحسب عطاء الملحن الكبير بالنظر إلى تعاونه مع كوكب الشرق فقط، وإن مثّل هذا التعاون على مر سنواته ذروة مجد الملحن الكبير والمطربة القديرة معا، على أية حال سنتحدث في هذه الحلقة عن الوتر الحساس في مسيرة الموسيقار محمد القصبجي بخصوص مسألة التوازن بين المحافظة على الأصالة والشرقية في الموسيقى وبين التجديد الموسيقي وأثر ذلك على توتر العلاقة بينه وبين كوكب الشرق ثم نتحدث عن النتاج الفني للموسيقار الكبير.
الوتر الحساس في مسيرة الموسيقار محمد القصبجي: “بين التجديد والتغريب وفقدان بوصلة التوازن”
قبل الحديث عن النتاج الفني للمرحوم محمد القصبجي يتعين علي أن أتحدث عن نقطة هامة ربما ستفيد القاريء حين يربط بين مسألة تفرد القصبجي كملحن بين أقرانه من الملحنين ومسألة كونه أحد المجددين في تاريخ الموسيقى العربية مثله مثل المرحوم سيد درويش والمرحوم محمد عبد الوهاب، إن خلاصة التجديد الهائل الذي أنجزه محمد القصبجي والذي نتحدث عنه دوما رابطين بينه وبين بداياته الأولى مع كوكب أم كلثوم متجسدا في معالم قصيدة إن حالي في هواها عجب, ومونولوج إن كنت أسامح وانسى الأسية, ونهاياته معها أيضا في ما دام تحب بتنكر ليه، ورق الحبيب, تؤكد أنه تجديد يستند إلى معادلة ثقافية فنية دقيقة التوازن بين جذور القصبجي العميقة في تربة المقامات العربية أو بالأحرى الموسيقى العربية الكلاسيكية الخالصة التي استقاها من ثقافة بيئته الأولى واكتسب معالمها من والده وأساتذته, وبين آفاقه الواسعة وطموحاته المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية التي استخدمها كدليل فقط دون أن يلوث بها الطعم الشرقي الخالص لموسيقاه وإن استفاد منها في سبيل هذا التجديد.
ولعل هذا التوازن قد وصل بنتاج المرحوم محمد القصبجي إلى ذروة الإبداع والعبقرية قبل رق الحبيب من خلال ألحانه في فيلم نشيد الأمل “منيت شبابي بالنعيم ويا الحبيب, ويا مجد ياما اشتهيتك” وفي مونولوجات مثل ياما ناديت, وفين العيون وغيرها، وتؤكد الوقائع والأحداث المتواترة وليس مجرد الاستنتاج النظري “لنكون منصفين” أن ملامح فقدان التوازن بين التحديث والتغريب كانت تطل برأسها في بعض ألحان المرحوم محمد القصبجي, خاصة في لحنه الكبير لأسمهان يا طيور في مطلع الأربعينيات, أي في ظل ذروة أزمته مع كوكب الشرق أم كلثوم، كذلك لما تولى المرحوم محمد القصبجي والمرحوم رياض السنباطي تلحين أغنيات فيلم عايدة لأم كلثوم في العام 1942, أفلتت بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب من أيدي القصبجي والسنباطي على حد سواء، وهو ما يبدو جليا عند الاستماع إلى المقطع الأوبرالي من فيلم عايدة, الذي لحنه السنباطي والباقي تسجيله حتى اليوم, فما بالك عزيزي القاريء بالمقطع الذي لحنه المرحوم محمد القصبجي, والذي يبدو أن أم كلثوم قد مسحت تسجيله فلم يصلنا إلى اليوم.
إقرأ أيضًا…نعرف كلام اعتماد خورشيد ..فما هو رد صلاح نصر عليها ؟
يقول المتخصص في سيرة أم كلثوم, الأستاذ محفوظ عبد الرحمن كاتب مسلسل أم كلثوم: إن أم كلثوم كانت لاتطيق الفشل, ولا تسمح باستمراره إذا ما زارها ذات يوم زيارة عابرة، وقد جاء فشل فيلم عايدة متزامنا مع فشل آخر, لعل أم كلثوم اعتبرت القصبجي مسئولاً عنه, هو فشل أغنية وقفت أودع حبيبي في العام 1941 لصديق القصبجي الملحن اللبناني المقيم في مصر آنذاك فريد غصن وكانت أم كلثوم قد قبلت اللحن, بعد أن قدمه القصبجي وألحّ عليها بقبول، أما الغيرة فكان محورها النجاح الجماهيري, الذي بدأت تحصده حنجرتا أسمهان وليلى مراد، فقد اندفع المرحوم محمد القصبجي بثقته بنفسه كأستاذ يحق له أن يضم إلى مدرسته تلامذة آخرين بعد أم كلثوم, ليزوّد حنجرتي أسمهان وليلى مراد وخصوصا أسمهان بألحان عبقرية, جمعت بين الجرأة الكاملة في ارتياد آفاق التجديد, وبين الإقبال الجماهيري الكبير عليها، وحينئذ تولد الصدام الكبير، فقررت كوكب الشرق أن تعامله حتى نهاية حياته, بوتيرة غضبها الجارف, الذي انفجر في تلك اللحظة العابرة.
النتاج الفني الكبير والغزير للمرحوم محمد القصبجي:
سنتحدث في هذا الحلقة بشكل إجمالي عن نتاج المرحوم محمد القصبجي من الألحان في الميادين المختلفة على أن نفصل القول في الحلقة القادمة بخصوص أبرز المعالم التي جملت وزينت هذا النتاج.
والحقيقة أن المعروف عن المرحوم محمد القصبجي أنه موسيقار ذو نتاج ضخم وغزير فقد أحصى المرحوم محمود كامل ثلاثمائة وستين أغنية للمرحوم محمد القصبجي، هذا فضلا عن مقطوعاتة الموسيقية المنفردة، وهذا العدد لا شك كبير جدا إذا وضع في الحسبان أن هناك سنوات مجدبة قل فيها النتاج الفني له، فضلا عن جودة تلك الأعمال، والحقيقة أن نتاج المرحوم محمد القصبجي في المسرح الغنائي هو ميدان الضعف خلال مسيرته، فنتاجه به ضئيل جدا يمكن حصره في ما يلي:
رواية المظلومة من تأليف المرحوم يونس القاضي وله فيها ثلاثة ألحان 1926م
رواية حرم المفتش من تأليف القاضي أيضا وله فيها سبعة ألحان 1926م
رواية حياة النفوس من تأليف المرحوم أحمد زكي السيد وله فيها ثلاثة عشر لحنا 1928م
رواية كيد النسا أو قليلة البخت من تأليف يونس القاضي وله فيها تسعة ألحان 1928م
رواية نجمة الصبح من تأليف المرحوم بديع خيري وله فيها ثلاثة ألحان 1929م
إلا أن المرحوم محمد القصبجي قد أقلع عن هذا الميدان فلم يكرر تجاربه التلحينية فيه وانصرف إلى ميدان القوالب الغنائية الأخرى وفيها وضع خلاصة فكرة وأنتج خلالها نتاجا غزيرا يمكن إجماله فيما يلي:
13 دور غنى منها الشيخ أمين حسنين وزكي أفندي مراد.
موشح واحد “مر عيش هان” من مقام الجهاركاه.
30 قصيدة غنى منها أم كلثوم وأسمهان وفتحية أحمد وكارم محمود وسعاد محمد وعبد الغني السيد ونجاة علي.
43 مونولوج غناها المطرب القدير صالح عبد الحي وأم كلثوم وأسمهان ومنيرة وفتحية أحمد ونجاة علي.
وتأتي الطقطوقة في المرتبة الأولى بحصيلة 182 طقطوقة غناها صالح عبد الحي وأم كلثوم وأسمهان وفتحية أحمد ونجاة علي وليلى مراد ورجاء عبده وسكينة حسن وعصمت عبد العليم ونادرة أمين وإبراهيم حمودة وعباس البليدي وسعاد مكاوي ومحمد عبد المطلب.
كذلك لحن القصبجي 91 أغنية في 38 فيلما سينمائيا.
وفي الحلقة القادمة سنتحدث تفصيلا عن أهم معالم هذا النتاج الكبير، وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال