مالي النهارده لـ محمد محي .. أغنية تقترب من الكمال الفني
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
دائمًا ما يكون هناك تساؤل حول شروط العمل الغنائي المبهر؟ قد يبدو السؤال تقليديًا مطاطًا يفتح أبوابًا من الجدال والنقاش حول عناصر الأغنية، فهل هو أداء المطرب أم طبيعة الملحن أم موضوع الكلمات أم الإخراج الموسيقي، أم كل تلك العوامل مجتمعة، وفي النهاية يظل الأمر نسبي محض يختلف من شخص إلي أخر ويتدخل فيه الذوق الشخصي بدرجة كبيرة، فالعمل العظيم والمبهر بالنسبة لشخص ما بالضرورة قد لا يكون على نفس العظمة والإبهار مع شخص آخر، لكن الحقيقة المؤكدة تقول أن الأعمال التي وصلت إلي ذروة الكمال الفني في مصر قليلة جدًا حتى مع كل هذا العدد الضخم من النجوم والأساطير الغنائية، وهو ما سنحاول أن نمر عليها بداية من هذا التقرير على أن نستكملها في تقارير لاحقة.
من التجارب المهمة في الغناء المصري الحديث تجربة المطرب “محمد محي” الذي يمتلك رصيدًا محترمًا من الأعمال التي لامست قدرًا كبيرًا من الكمال الفني، منذ بدايته في أوائل التسعينات وصنع لنفسه مسارًا مختلفًا عن جيله، جرأة في اختيار المواضيع وتنوع مدهش في الألحان والأخراج الموسيقي، لم يساير التيار الموسيقي السائد كثيرًا وكان قادر على مبارزته بأختياراته الخاصة التي حفرت مكانًا مميزًا لدى الجمهور.
مع بداية الألفية انتقل محي إلي شركة “فري ميوزيك” والتي كانت تعيش ذروة نشاطها الإنتاجي، وقتها تخوف البعض من ديكتاتورية المنتج نصر محروس وهل سيفرض بعض الأغانى على محي، لكن وبرغم مسايرته لبعض الاختيارات لكنها في النهاية لم تتعدى أصابع اليد الواحد وحافظ على خصوصية تجربته في ألبومي ألبومي “صورة ودمعة” و”قادر وتعملها” وصنع بعض الأغنيات المهمة في تاريخه أهمها على الإطلاق هي أغنية ” مالي النهارده ” التي لامست قدرًا كبيرًا من الكمال الفني.
الكلمات.
كتب كلمات أغنية مالي النهارده الشاعر أيمن بهجت قمر، ويشتهر أيمن كونه شاعر صنايعي قادر على مزج إفيهات ومفردات مبتكرة في أغلب أعماله الغنائية، لكن هنا ترك كل هذا جانبًا وأخرج شخصية السيناريست التي بداخله التي طغت على شخصية الشاعر الصنايعي، لذا لن تجد في كلمات الأغنية صور مبتكرة أو مفردات مختلفة و جديدة، هو من البداية قرر أن يحكي بلغة مبسطة حكاية عن ليلة في حياة شخص يهاجمه الحنين للحب الأول فجأة، ويطارد هذا الحنين في الشوارع بحثًا عن حبيبته التي لم يعد يعلم عنها أي شئ حتي يصل إلي بيتها ويبدأ في مناجاتها و طرح تساؤلاته هل مازالت تتذكره؟ هل أحبت من بعده؟ ليعلن في النهاية أن أمله الوحيد في تلك الليلة أن يراها للمرة الأخيرة بعدها سيرحل في سكوت.
سيطرة روح السيناريست على أيمن بهجت قمر جعلته لا يصب الأغنية في قالب اعتيادي مكون من مذهب وسينو ينتهي بنفس قافية المذهب و بعده كوبليه أو أثنان، هو هنا ترك لنفسه المساحة كي يحكي لنا القصة في مقطعين مختلفين في الوزن والقافية الأول “مالي النهاردة” والثاني “شايفني ولا مش شايفني” بتكثيف مدهش عبر عن الفكرة التي تتلخص في ليلة في حياة بطل الأغنية، وهذا التكنيك في الصياغة يعطي مساحة جيدة للملحن في تنويع جمل اللحن الموسيقية التي ستعطي ثراء في النهاية للعمل ككل
اللحن.
تعامل الملحن وليد سعد مع الكلمات كأحسن ما يكون، قسم الأغنية إلي عدة مقاطع لحنية متعددة الأفكار أغلبها على مقام واحد هو النهاوند ماعدا نقلة بسيطة في المقطع الثاني على مقام الكرد، جمل اللحن شديدة التنوع تحمل طابع الأسى والحنين والتساؤل وكأنه يعكس لنا حالة بطل الأغنية وما يحمله من مشاعر متخبطة في تلك الليلة.
يبدأ اللحن بشكل تصاعدي من البداية بجملة تساؤلية مبهمة “مالي النهارده إيه جرى لي الليلة غير كل الليالي” ليرد عليها بجملة جديدة تشرح ماذا يحدث في تلك الليلة “نازل بدور في الشوارع والبيوت على ذكرى كانت بينا مش ممكن تموت” ليأخذنا معه إلى ذروة الحدث في تلك الليلة في جملة “وتحت شباكك بيرميني الحنين ” ليبدأ في التقهقر مرة أخرى بالأخص في جملة “حيران بقدم خطوة وارجع خطوتين” حتى ينتهي المقطع الأول بجملة تحمل طابع الأسى والرجاء “أنا عايز اشوفك بس وامشي من سكوت” ويطيل في جملة “من سكوت” وكأنه يؤكد أنه لن يفعل غير ذلك.
على نفس منوال المقطع الأول يبدأ المقطع الثاني بجمل لحنية تساؤلية على نفس المقام “شايفاني ولا مش شايفاني” ليجيب بجملة جديدة “أنا الحبيب الاولاني” سرعان ما يعيد نفس الجملة لكن أعلى “سامعاني يا للي فوق” مع استخدام تكنيك صدى الصوت ليجيب “ولا حبيتي حد تاني” ليصل إلى الذروة في “مستنياني ولا مستنية مين” وينقلنا إلى مقام الكرد فيها، يغلق المقطع بجملة”نازل بدور فى الشوارع” الشطر الذي يعود منه ليقفل الأغنية.
اقرأ أيضًا
ماجبش سيرتي .. وأسئلة حائرة تجيب عنها الموسيقى ..
التوزيع الموسيقي.
هذا الفيلم الدرامي القصير كان لا بد له من مخرج، والمخرج المقصود هنا هو التوزيع الموسيقي الذي وضعه دكتور أشرف محروس.
دور أشرف محروس في موسيقى الأغنية بدون مبالغة كان الرئيسي، لأن كل ما سنسمعه في الأغنية من موسيقي سواء في المقدمة أو الفاصل أو جزء الهارموني من إبداعه الخاص، التوزيع الموسيقي للأغنية لم يكن سوى الموسيقى التصويرية التي تصاحبنا في هذا الفيلم القصير.
تبدأ أغنية مالي النهارده صولو بيانو يلعب جمل غير مستنسخة من اللحن وكأنه تتر البداية، ترد عليه جمل وتريات بشكل تصاعدي ليعود البيانو ليسلم محي الغناء بكل سلاسة، يبدأ محي الغناء خلف كوردات بيانو لتدخل فجأة الوتريات سرعان ما تسلم الدفة لجملة رقيقة من اّلة العود، في إعادة الشطر الأول نلمح أن هناك تغيير في جملة الوتريات خلف جملة “الليلة غير كل الليالي” كل هذا دون إيقاع تقريبًا.
يدخل الرق على إيقاع السنباطي بدأ من جملة “نازل بدور فى الشوارع والبيوت” والتي تشعر فيها بأنها وقع خطاه في الشوارع، يصاحب غناء محي صولو عود يقطر حنين وشجن مع جمل وتريات شجية، في الإعادة نلمح أيضًا أن اختلاف جمل الوتريات التي ترد على الغناء، حتى تمهد لتغيير الجملة اللحنية بدء من “وتحت شباكك بيرميني الحنين” يتغير الإيقاع وتدخل الدفوف صحبة الرق وكأنها تجسد حالته في النقر على شباك الحبيبة مع وتريات حائرة تعكس حيرته في شطر “حيران بقدم خطوة وارجع خطوتين” ثم بذكاء شديد يقسم الجملة الأخيرة “انا عاوز اشوفك بس وامشي” بفاصل من الوتريات بتكنيك البيتزكاتو حتى يؤكد على أهمية كلمة “من سكوت”
الفاصل الموسيقي واحد من أكثر الفواصل الموسيقية ثراء في الأغنية المصرية الحديثة، يبدأ بصولو عود تزحف خلفه الوتريات ليعيد نفسه مرة أخرى لكن يرد عليه القانون والبيانو مع الوتريات ثم يخرج من رحم الجزء الأول جزءً جديدًا شجي جدًا بصولو عود مع خطين من الوتريات خط رئيسي يعزف نفس جملة العود وخط خلفهم بجمل أخرى متألفة معهم والأهم في الفاصل هو تغيير ميزان الإيقاع من 4/8 إلي 5/8 في سابقة لا نراها كثيرًا في الأغنية المصرية، هذا الفاصل المتشعب والثري جدًا المكون من ثلاث جمل كل جملة فيهم تصلح لأن تكون جملة الفاصل لوحدها.
في بداية المقطع الثاني يعود الرق ليصاحب غناء محي مع جمل وتريات شجية جدًا، في الإعادة لا تنسخ الوتريات نفسها بل تعزف جمل جديدة في جزء الذي يرد على “شايفاني ولا مش شايفاني” ثم تمهد الوتريات للنقلة إلى مقام الكرد في جزء “مستنياني ولا مستنية مين”والتي يتغير فيها الإيقاع مرة أخرى، ليعود إلي مقطع “نازل بدور في الشوارع والبيوت” الذي يمكن اعتباره سينو الأغنية حتى تنتهي الأغنية بكل سلاسة, ولا ننسى هنا دور مهندس الصوت “أمير محروس” في التعامل مع كل هذا الزخم الموسيقي وخروج الأغنية بهذا الشكل المبهر جدًا تقنيًا.
أداء محي اقترب من الكمال الفني احساس طاغي بكل جمل اللحن المختلفة قدرة مذهلة على أن يعطيك عدة حالات مختلفة من تساؤل ورجاء وحنين في فترة زمنية بسيطة بل يورطك كمستمع معه في تلك الليلة.
مالي النهارده هي أفضل أغنية في ألبوم “صورة ودمعة” بل أنها من الأغاني التي لازالت تحصدًا نجاحًا حتى الأن ومن العلامات المهمة جدًا في مسيرة محمد محي.
ضع سماعتك وانطلق معنا في هذه الرحلة الممتعة جدًا.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال