رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
651   مشاهدة  

متى يطير الدخان؟

الدخان


نبّهتني قطرات الدم التي انطبعت على كُم القميص أن يدي جُرحت بعنف، أثناء محاولتي البائسة للتمسُّك بالحاجز الحديدي داخل التوك توك، بينما كان سائقه يقود مندفعًا في جنون جعلني ألوم كل ظروف يومي التي أجبرتني على الركوب مع هذا السائق المراهق، والذي لم يتجاوز الـ 16 عامًا غالبًا.

توقف بحِدَّة فجأة على جانب الطريق، مُحدِثًا عاصفة ترابية صغيرة من حولنا، وأخبرني أنه سيحضر شيئًا له، قبل أن نستكمل الطريق لهدفنا.

أخذتُ أراقبه بنظري، وأنا أضغط بمنديل ورقي على موضع الجرح في باطن كف يدي، بينما هو يسير بهدوء داخل الشارع الجانبي الذي وقفنا في بدايته المُطلة على الطريق الرئيسي.. توقف أمام شاب في منتصف العشرينيات، وقف أسفل إحدى البلكونات في منتصف الشارع الصغير، تصافحا سريعًا، ثم تمت عملية التبادل بخِفَّة، حيث وضع سائقي عدة ورقات مطوية في كف الشاب الواقف، وأخذ منه “شريط دواء” ما، وضعه في جيبه وانصرف.

ثم عاد للتوك توك، وانطلق بِنا من جديد، وكل دقيقة كان يبلع قرصًا من الشريط الذي اشتراه للتو.. حتى نزولي كان قد ابتلع أربعة أقراص تقريبًا.. وصلنا لوجهتي، وأعطيته أجرة التوصيلة وأنا أحدِّق في عينيه، لأجد فيهما نظرة ميتة لا تنم عن شيء، جفناه منكسران، وينظر لي بتبلُّد كأنه لا يدرك ما يجري بالضبط من حوله.

أعرف هذه النظرة جيدًا، تقريبًا لا يمر عليَّ يوم خلال تجوالي في الشوارع وتعاملاتي مع الناس إلا وتصادفني عدة مرات.. نظرة الوقوع تحت تأثير مخدر ما، غالبًا ما يكون من يقع داخل نطاق “البرشام” كما هو مُصطلح في اللغة الشعبية.

يبدو الوضع من حولي وكأن نبوءة “البهظ”- الذي أدى دوره الفنان الراحل “جميل راتب” ببراعة في فيلم “الكيف”- تتحقق بأسوأ الأشكال الممكنة: الناس متيِّسة وحال الدنيا نايم!
نظرات “الانسطال” في كل مكان، مثلًا، قد تدخل مطعمًا في منطقة شعبية لتأكل، أو تتجه لأحد المحلات لتشتري شيئًا ما، لتجد ذات النظرة الميتة في عيون الواقف أمامك، وبالحديث معه يصدمك ذات الإدراك البطئ لما تقول، وطريقة حديثه ذات الحروف الثقيلة، كأن أحد ثبَّت الزمن عِند مَن تخاطبه، كشخص لا تتعاطى شيئًا تبدو الحياة من حولك كأنها تقول: “الكل مبسوط ومش عايز وجع دماغ”، والنتيجة تتلخص في إيقاع منعدم تقريبًا لكل شيء مِن حولنا.

هل يقدر مجتمع تفشَّت فيه المخدرات بهذا الشكل على إحداث نهضة أو الإنجاز بأي شكل؟
يقول التعبير الإنجليزي: “هناك فيل في الغرفة”، عندما يرغب القائل في الإشارة إلى شيء ما له حضور واضح للكل لكن الجميع يتجنب الحديث عنه.. والحق أنني لا أجد ما يناسب هذا التعبير أكثر مما أراه حولي في مصر في كل مكان أتجول فيه تقريبًا..
هناك فيل في الغرفة، فيل ضخم للغاية في الواقع، وقادر على سحقنا جميعًا لو تركنا له العنان كما يحدث بالفعل.
كيف ولماذا أصبح الحصول على المخدرات بهذه السهولة؟

كيف أصبح شراء قطعة حشيش أسهل من الحصول على بعض الأدوية “الناقصة” دومًا في السوق؟ وكيف لدولة عتيقة مثل مصر أن يصبح فيها مظهر مُروحي المخدرات شيء مألوف في الكثير من مناطقها، خصوصًا الشعبية؟

كل حملات التوعية ضد تعاطي المخدرات لن تفيد طالما ظلَّ الحال على ما هو عليه.. قرأتُ كثيرًا عن وزير الداخلية “أحمد رشدي”، الذي قاد حملة أمنية شرسة ضد مُروجي الكيف، ونجح فيها بشكل كبير قبل أن تتم إقالته، خلال ثمانينيات القرن الماضي، أما آن الأوان لحملة مشابهة؟ اكتفى قلبي وجعًا كلما عرفتُ أن واحدًا أعرفه وقع في فخ واحد من أصناف الكيوف اللعينة، يكتوي قلبي وجعًا وتعتمل الغُصّة في حلقي بينما تتسرب رائحة الحشيش المحروق لأنفي، بينما أسير في قلب ميدان “رمسيس”! هل أصبح الأمر اعتياديًا إلى هذا الحد؟.

خلال الأسابيع الماضية قادتْ معظم وسائل الإعلام حربًا على مُروجي الفنون الهابطة، تحديدًا صُنّاع المهرجانات، ووصل الأمر لحد إصدار قرارات بالمنع من الغناء داخل مصر من قِبل نقابة المهن الموسيقية.. شخصيًا لستُ مقتنعًا أن المنع هو الحل في مواجهة شيوع القُبح، على العكس كل ما هو ممنوع مرغوب بشدَّة، لكن المثير للدهشة بالنسبة لي كان تجنُّب الجميع تقريبًا لمناقشة سؤال: متى وكيف وُجدتْ البيئة الحاضنة لكل هذا الكم من الفن الهابط؟.

شيوع تعاطي المخدرات وسهولته ضلع أساسي في كل انهيار.. والفنون الهابطة لا تطفو للسطح إلا بعد أن تجد البيئة الحاضنة المناسبة.. متعاطو المخدرات في سهراتهم لن يتراقصوا على أغاني “حسن الأسمر” مثلًا، بل يحتاجون إيقاعات صارخة، غير مرتبة، بمؤديين ذوي أصوات خشنة لا يعرف لها الطرب طريقًا، من قال أنَ صاحب الكيف ينتظر طربًا من الأساس؟ الأهم هو الإيقاع الصارخ الفظ، ولا بأس من وجود بعض الكلمات ذات التلميحات الجنسية الصريحة والخفيَّة.

إقرأ أيضا
المخدرات

مَن أراد خيرًا بهذا البلد، فعليه أن يُغلق صنبور الكيف المفتوح على البحري.. ربما، بعد أن تنقشع سحابة الدخان الأزرق التي تحاوط كل شيء من حولنا، ربما، قد نجد في أنفسنا أشياء جميلة كِدنا أن ننساها في الدخان.

اقرأ ايضا

أربعة ريشة

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
7
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
1
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان